أهمية البُعد الزمني في الثورة المصرية..!!
منذ أن بدأت الثورة المصرية المجيدة في الخامس والعشرين من يناير ، وبدت لي ظاهرة شديدة الوضوح حاولت السكوت عنها وعدم الكتابة فيها ، وانتظرت عدة أشهر لعل وعسى تنصلح الأمور ويتفهم القائمون بإدارة شئون البلاد أن مصر حدثت فيها ثورة حقيقية ، ثورة بكل ما تحمل الكلمة من معنى ، ثورة فريدة من نوعها ، ثورة سلمية أشاد بها العالم في منهجها وأسلوبها وسلميتها وطهارتها ، كل هذا بالرغم من عدم وجود قيادة حقيقية واضحة لها ، وبالرغم من محاولات سرقة هذه الثورة من جهات و تيارات كثيرة ، وتحويلها لطريق آخر وتغيير مسارها الطبيعي ، إلا أن الثوار كل يوم يكتسبون خبرة كافية تحمي ثورتهم من غدر الغادرين وخيانة الخائنين وتواطؤ المتواطئين ، وبينما يكتسب الثوار هذه الخبرات كل يوم ، لا يزال في الجانب الآخر أحوال لا تسر عدو ولا حبيب ، تختلط هذه الأحوال بين تأخر المحاكمات للقتلة والفاسدين عدم تطبيق الحد الأدنى للأجور ، وحتى عدم الانتهاء من تعويضات أسر الشهداء ، وبين تيارات دينية دأبت استغلال الفرص مهما كان الثمن ، حتى لو وصل الثمن لعقد صفقات مع س أو ص لتقاسم المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله ، ويشترك هؤلاء جميعا في صناعة حلقات من الكلام والتصريحات بلا حدود ، وفي مقابل هذه الوصلات من الكلام الذي لم يتحقق ربعه على أرض الواقع ولم يوضع له جدول زمني محدد ، هناك ينتظر الثوار بمطالبهم المختصرة الواضحة المحددة التي تعبر عن ثورتهم باختصار ، لأنهم يدركون قيمة الوقت ، أو عامل الزمن في بناء هذا البلد ، لأننا في ثورة ، وجميع الأحكام والقرارات والإجراءات يجب أن تكون ثورية وغير عادية أو تكون استثنائية ، وليتذكر الجميع ما فعله مبارك وأعوانه من بيع وسرقة لمقدرات مصر بالأمر المباشر ، وتوزيع ثروات مصر وأراضيها على الأصدقاء والأقارب والحبايب بقوانين وقرارات وإجراءات وتوصيات وتعليمات استثنائية وغير قانونية ، وكل هذا بدون ثورة ، إذن لماذا يستنكر القائمون على إدارة شئون البلاد أن يتم اتخاذ إجراءات وقرارات ومحاكمات ثورية ، ويساعدهم في هذا ثورة الشعب المصري ، ولا يليق أن يتحدث بعضهم أن هذه المحاكمات الاستثنائية ستلغي حقنا في المطالبة بالأموال المنهوبة التي تم تهريبها خارج مصر ، لأن هذه الأموال إن آجلا أو عاجلا لن يعود منها مليم أحمر ، وبالتالي حرصا على مستقبل مصر يجب أن يحاكم كل فاسد وكل قاتل على جريمته ، وذلك لتأصيل مبدأ العدل والثواب والعقاب للأجيال الحالية والقادمة ، وحتى لا يثبت في عقول وأذهان المصريين إمكانية التلاعب بالقانون والهروب من العدالة مهما كانت حجم الجرائم ، وهذه ستوكن قاعدة لفئة كبيرة من المصريين في صناعة فساد من نوع قد يكون أكثر كارثية وإجراما في حق مصر والمصريين.
ويجب أن يفطن هؤلاء جميعا أن الثوار الذين خلعوا مبارك الذي عاش عمراً طويلا ، وصل فيه لقمة الفساد والطغيان ، ووصل تقديس أتباعه له لدرجة التسبيح بحمده بدلا من الله جل وعلا ، وإنه لمن الغباء أن يعتقد كائنا من كان أن مصر يمكن أن تتحول للقمة سائغة لتيار أو فصيل أو مؤسسة أو حزب بعينه ينفرد بها أو يتحكم فيها ، و يسيطر عليها وعلى شعبها كما كان في الماضي ، فقد عرف الشعب المصري أسباب ضعفه ووهنه ومن المتسبب فيهما ، وكذلك عرف مكمن قوته الحقيقية.
يجب أن يفطن هؤلاء جميعا أن الشعب الذي استيقظ على هتافات ثورة أطاحت بطاغية مثل مبارك بكل عنفوانه ، فإنه قادر على قهر أي شيء فيما بعد ، ومن يراهن بالشك في هذا فهو خاسر مقدماً..
ومن أهم ملامح الثورة المصرية (عنصر السرعة) ، والسرعة تدخلنا في البعد الزمني الذي أقصده في ثورتنا المصرية العظيمة ، شهادة وكلمة حق يجب ان تقال (إن الثورة المصرية كانت في بدايتها تظاهرة عادية ترفع لافتات للمطالبة بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية) وبعد تطور المشهد في أحداث جمعة الغضب في الثامن والعشرين من يناير ، وبدون تخطيط أو تحضير وبعفوية وبفطرة نقية تحولت التظاهرة إلى ثورة حقيقية ، حدث هذا في وقت قياسي ، يجعلنا نلحظ حالة التباطؤ المميتة في تنفيذ مطالب الثورة ، فبالرغم من مرور كل هذا الوقت إلاّ أن إدراك مفهوم الثورة والاعتراف بها كحقيقة واقعية ملموسة تفرض مطالبها ، وكل القرارات وكل الإجراءات التي تمت حتى الآن في مجملها جاءت متأخرة كثيرا عن موعدها ، وظهرت هذه المفارقات بين رتم الثورة والثوار من جهة ، وبين الجهة الأخرى التي تضم بقايا النظام السابق الذي لم يدرك ولم يفهم معنى الثورة ، والمجلس العسكري من بعده وجميع من عمل في الحكومات التي جاءت لتسانده في هذا الدور.
فمنذ البداية ، تحولت التظاهرة إلى ثورة بينما ظلّ نظام مبارك الفاسد بكل وزرائه وبكل أعوانه يحاربون الثورة ، ويخططون لإجهاضها وقتلها ، فعلوا الكثير في هذا بداية من انسحاب الشرطة وإطلاق سراح البلطجية والمسجلين ، ومرورا بموقعة الجمل ، وجمع الحشود التي خرجت تدافع عن مبارك وتعتذر له وتطالب بتكريمه ، ولم تنتهي هذه المحاولات عند تهديد بعض المصريين بأنه لو لم يتم الإفراج عن مبارك وتكريمه سيقومون بحرق سجن طره ، وتزامن هذا في نفس اليوم مع تهديدات صريحة لبقايا الحزب الوطني وقياداته أنهم لن يستسلموا ، وأظهروا هذا في محاولات واضحة لنشر الفرقة والخلافات بين جميع أطياف الثورة وتحويل جميع مؤتمرات الوفاق الوطني لمعارك تنتهي بالفشل دون التوصل لأية نتيجة ، وأخر ما حدث من هذا الجانب كان على ما يبدو في أحداث مسرح البالون وميدان التحرير في حالة من التعاون الواضح بين بقايا الحزب الوطني المنحل ، والبلطجية وبعض رجال الشرطة ، ومن وجهة نظري لو أن هذا الجمع يعرف حقا معنى كلمة ثورة لما فكّر في كل هذه التفاهات التي أظهرت قوة الشعب المصري وأصالته ومدى إيمانه بثورته.
ولأن هؤلاء جميعا لم يدركوا أن مصر تعيش ثورة حقيقة ، والسبب هو البعد الزمني في الرؤية والإدراك والفهم لما يجرى في البلاد ، معظم هؤلاء شربوا وتجرعوا البيروقراطية واختلطت بدمائهم ، وانعكس هذا على أقوالهم وأفعالهم وجميع سلوكياتهم ، بينما الثوار تتزايد طموحاتهم ويعلو سقف مطالبهم أملا في أن تتحول مصر لدولة حقيقية يسودها العدل والحرية وحقوق الإنسان ويعيش فيها الجميع سواسية لا فرق بين رئيس ولا مرؤوس ، لا فرق بين مواطن أو لواء أو وزير أو رئيس ، الجميع يعيش لخدمة الوطن بحق قولا وفعلا ، يجب أن يقدر الجميع قيمة الزمن ، قيمة الوقت ، إذا كانوا فعلا يريدون بناء هذا الوطن ، لأن الثورة أثبتت أنها تفرض مطالبها وتـُصر عليها حتى تتحقق إذن من يضيع الوقت ويؤثر سلبا على اقتصاد وأمن الوطن لا الثورة ولا الثوار ، ولكن فيما يبدو أن السبب هم من يوافقون على تحقيق المطالب في وقت متأخر بعد طول انتظار.
إن اختلاف نظرة المسنين من أفراد الشعب ومن المسئولين سواء في الحكومة أو المجلس العسكري أو أي مسئول سابق عن نظرة الشباب الذي فجر الثورة فهناك بعد زمني في الأمر يجعل فرقا كبيرا بين نظرة كل فئة للثورة ولكيفية وإمكانية تحقيق مطالبها وكذلك للطريقة المثلى لتحقيق مطالب الثورة وهنا يدخل العامل الزمني كمؤثر خطير حيث اعتاد المسنون أو كبار السن على البطء والتباطؤ والصبر والملل ولم يتكيفوا الى الان مع الثورة التي تفجرت في عجالة ومضى على سقوط الحاكم الفاسد للبلاد شهور ولا زال يسيطر على كبار السن نظرية اعطونا فرصة لكي نعمل .. وأنا بقدر ما اوجه لهم النقد لا ألومهم لأنهم قد اكتسبوا هذا رغما عنهم نتيجة علاقتهم الطويلة مع مبارك..
الثورة المصرية كل يوم تظهر لنا حقائق جديدة ودلالات عديدة تبين لنا تأثير الحياة البئيسة التي عاشها ملايين من المصريين تحت مظلة حكم مبارك القمعي الذي صنع أجيالا خانعة ساكتة وساكنة لا يشغلها إلا البحث عن لقمة العيش مهما كانت التنازلات التي سيقدمها من يبحث عن هذه اللقمة .
نجح مبارك في تحطيم ملايين من المصريين وقوقعتهم في هذا القالب المغلف بالخوف والتخوين من أقرب الناس ، ونجح في خلق الشتات بين المصريين ، في حالة فريدة من نوعها وجديدة على الشعب المصري الذي عاش قرونا طويلة يتميز بالحب والتسامح والتعاون والنخوة والرجولة والشهامة مع بعضه البعض ، وحتى مع الأغراب والوافدين من بلاد أخرى ، كل هذه القيم والصفات النبيلة والعظيمة ، نجح مبارك في طمسها ومحوها من عقول معظم المصريين بالتدريج وساعده في هذا جميع أجهزة الدولة الاعلام والشرطة والتعليم والسياسة بعض رجال الدين .
ومعظم المتأثرين بحكم مبارك تجدهم من المسنين أو الطاعنين في السن ، حيث أن الشباب تحت سن الأربعين لم يصيبهم هذا الوباء بنفس القدر ، ولم يتحول معهم إلى مرض مزمن كما حدث مع الفئة الأكبر عمرا في مصر ، وهذه حقائق واقعية نلمسها كل يوم لا يوجد حتى الآن مواطن مصري يحاول التمسح بمبارك أو التحدث عن حكمته أو أنه كان قائدا أو أن له حسنات إلا بعض هذه الفئة العمرية التي طعنت في العقد السادس والسابع من العمر ، وسبب هذا هو أنهم عاصروا مبارك منذ أن كان نائبا للرئيس ، وعاشوا معه لحظة بلحظة وشربوا من كل أنواع سياساته الفاسدة قطرة قطرة.
وعندما قامت الثورة بعض هؤلاء وإن أيدوا الثورة بعض الوقت لحفظ ماء وجههم أمام الناس إلا انهم لا يستطيعون تأييد الثورة بنسبة مائة في المائة ، ولابد أن يرموا الثورة ببعض السلبيات واتهامها بأن استمرارها سيضر بمصلحة الدولة ، ويظهر هذا جليا عندما يتحدث أحدهم أن هذا الشباب لا يستطيع أن يقيم دولة أو يدير شئون دولة بمفرده دون الاستعانة بالخبرات والكفاءات ، وهنا نقول لهؤلاء المسنون جميعا ماذا قدمتم للثورة ، بخبرتكم الفريدة من نوعها ، انتم حينما فكرتم في اتخاذ موقف من الثورة فكرتم كثيرا وكان لدى معظمكم أمل كبير جدا أن مبارك سيعود وسيطير على الشباب ويقتلهم ويعتقلهم ويقتل ثورتهم ويعود ديكتاتورا قاتلا مستبدا ، ولا يفوتني هنا ان أذكر بأن معظم هؤلاء المسنون قالوها صراحة على التلفزيون(احمدوا ربنا ان مصر لم يحدث فيها مثل ليبيا واليمن وسوريا والبحرين) وكأن ما حدث في مصر كان لعب وهزار مع الثوار عندما قتلوا ما يقرب من ألف شهيد وأصابوا أكثر من ستة آلاف من خيرة شباب مصر.
هذه هي النظرة المناسبة للفئة العمرية التي عايشت مبارك ثلاثة أو أربعة عقود كاملة ، وهذه النظرة تتناقض في معظمها مع نظرة شباب الثور لمصر ومستقبلها
ويتجلى هذا التناقض بين الفئة العمرية السالفة الذكر وبين الشباب أن هذه الفئة العمرية توافق على تحقيق أقل المطالب ، وهذا يرجع لتأثرهم لعقود بسياسة القمع والظلم والقهر وانتظار العلاوة والحقيرة كل عام من مبارك الحرامي وعصابته .
لكن شباب الثورة الذي واجه مبارك بكل جبروته وقمعه وتسلطه وأجهزته بكل انواعها ، وشباب الثورة الذي فجر هذه الثورة بلا مواعيد وبلا تخطيط وبلا جدول زمني وبلا (اعطونا فرصة نعمل) مثلما يقول المجلس العسكري وحكومته هذا الشباب لا يمكن أن يقبل تحقيق بعض المطالب ، ولن يقبل ان تعود مصر إلى الوراء
هذا الشباب يريد لمصر أن تكون دولة بمعنى الكلمة يتم فيها اصلاحا حقيقيا لا صوريا ، يتم بناء مجتمع خال من الفساد والمحسوبية مجتمع حر يتمتع فيه كل مصري بحقه وحريته ويكون جميع المصريين سواسية أمام القانون ، مجتمع يتحقق فيه مبدأ تكافؤ الفرص للجميع وتكون القيادة و تقلد المناصب الهامة بالكفاءة لا بالرشوة والمحسوبية والمعارف والفساد كما كان .
هذه مجرد وجهة نظر وتحليل متواضع لما يحدث الآن بين شباب الثورة وبين فئة عمرية عاشت وعاصرت مبارك وتأثرت به كثيرا ، وبكل أسف رغم أن ثورة قامت وأسقطت هذا الفاسد إلا أن بعض هذه الفئة العمرية لا تزال تتناقض مع نفسها ولا تستطيع أن تؤمن بالثورة بنسبة مائة في المائة ، وللعلم إن هذه الفئة العمرية تنتشر بين جميع المصريين في كل المستويات وفي كل المواقع وفي كل المؤسسات ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق