الأربعاء، 25 يناير 2012

الـثـورة الـمـصـريـة بــدأت الـيـوم .... ولـكـن..!!

الـثـورة الـمـصـريـة بــدأت الـيـوم .... ولـكـن..!!

بعد مرور عام كامل على انطلاق ثورة 25 يناير 2011م ، ورغم التضحيات من قتلى ومصابين ، ورغم الحرق والتخريب الذي طال بعض مؤسسات الدولة ، إلا أنني اعتقد وبكل المقاييس أن المصريين استفادوا واكتسبوا خبرات لا بأس بها خلال هذا العام ، وسيتم تسخير هذه الخبرات والاستعانة بها في إكمال مسيرة الثورة المصرية لتتخطى العقبات والمصاعب وتكشف الحيل والخداع المضاد ، لتمتلك الثورة القدرة على السير في الطريق الصحيح لتحقيق جميع مطالبها كاملة بجدول زمني واضح ومحدد دون أي تباطؤ أو تواطؤ من أحد ، وذلك لأن الإصلاح والديمقراطية والحرية لابد لهم من ثمنٍ غالٍ.

فمنذ شهور كان الثوار يتعاملون مع عدو واحد هو مبارك حين كانت نظرتهم سطحية للأمور ، ولذلك تعالت جميع الأصوات قبيل التنحي بـ ( يسقط يسقط حسني مبارك) ، لكن بمرور الوقت بدأت الصورة تتضح أمام الثوار وأمام الشعب المصري كله ، حيث أضيف لأعداء الثورة أو أعضاء (الثورة المضادة) متهمون جدد ، منهم من كانوا يخدعون الثوار وهم الاخوان والسلفيون ، ومنهم من كانوا يدّعون حماية الثورة وهم المجلس العسكري الذراع الباطشة لمبارك وسياسته الفاسدة والتي كانت متخفية إلى وقت قريب ، بالإضافة إلى تجلية حقائق عديدة أمام المصريين أثبتت لهم جميعا بوضوح من فعلا مع الثورة ومن فعلا ضدها ومن كان يحاول قتلها بحثا عن مصالحه الخاصة ومنافعه الشخصية ، وهنا لابد أن نذكر بحث الاخوان والسلفيين عن السلطة واستغلال التوقيتات المناسبة في المشاركة وعدم المشاركة في فاعليات الثورة إرضاء للمجلس العسكري ، وكذلك محاولتهم الواضحة ودفاعهم عن احتفاظ أعضاء المجلس العسكري بالسلطة حماية له من المحاكمة ، لأن أعضاء المجلس العسكري وبعض قيادات القوات المسلحة قلوبهم ترتعـد و تمتلئ خوفا على ممتلكاتهم ومزارعهم وأراضيهم ومصانعهم التي تقدر بحوالي 40%من اجمالي اقتصاد مصر.

رغم ما حدث خلال العام الماضي من قتل وسحل وهتك لأعراض المصريين ، رغم ما حدث خلال العام الماضي من محاكمات فاضحة فيها إهانة وصفعة تاريخية على وجه القضاء المصري الذي سمح لمتهم أن يحاكم وهو نائم ، وهي حالة فريدة وعجيبة وشاذة وفيها ما فيها من استخفاف بالقضاء وإهانة لمؤسسة يفترض أنه مسئولة عن تحقيق العدالة بين الناس ، لأنه لو كان هذا مواطنا مصريا فقيرا لوضع في القفص وأجبر على الجلوس حتى لو كان في حالة احتضار ، فلن يسمح له أن يتأخر دقيقة عن موعد جلسة أو يحاكم وهو نائم ، وهنا لابد أن نذكر عملية تكبيل مصابي الثورة في الأسِرّة في مستشفيات الحكومة بينما مبارك يعيش في نعيم ويُنفق عليه بالملايين من أموالنا ، في الوقت الذي لا يجد فيه من فقدوا نور عيونهم أقل وأبسط درجات الرحمة والرأفة والعلاج بمستشفيات مصر التي هي ملكا لهم ، وأسر الشهداء حالهم كحال شهداء العبارة السلام 98.

ورغم التباطؤ والتواطؤ في عملية استرداد الأموال من الخارج ، ورغم التباطؤ والتواطؤ في عملية الكشف عن أرصدة مبارك في الداخل التي وصلت حتى الآن حوالي 9مليار دولار ولماذا لم يعلن عنها البنك المركزي..؟ هذا السؤال موجه لرئيس البنك المركزي ولأعضاء المجلس العسكري ، كما تم الكشف عن أرصدة مبارك في الخارج بحوالي 45 مليار دولار حتى الآن ، ورغم التباطؤ والتواطؤ في فتح الصناديق الخاصة التي أعلن عن المبالغ المجمدة فيها بحوالي 1275مليار جنيه مصري ، هذا حسب ما نشر في جريدة صوت الأزهر في عددها الأخير هذا الأسبوع ، رغم كل هذه الأموال إلا أن الجنزوري ومجلسه العسكري يذهبون هنا وهناك للتسول على مصر وشعبها ، وهذه جريمة يعاقب عليها القانون لأن فيها إهانة للدولة المصرية وتصويرها وكأنها دولة تتسول لقمة العيش ، فإذا كان المجلس العسكري لا يسمح ولا يقبل من أحد أن يوجه له أي نقد ، وفورا يحوله للمحاكمة العسكرية بتهمة إهانة القوات المسلحة ، فلابد من محاكمة أعضاء المجلس العسكري بتهمة إهانة الدولة المصرية لأن مصر ليست فقيرة وهم يقومون بالتسول باسمها رغم وجود كل هذه الأرصدة داخل مصر.

ورغم كل هذه الأموال لم يتم تنفيذ الحد الأدنى والأقصى للأجور تحقيقا للعدالة الاجتماعية ، ولم يتم تطبيق الضريبة التصاعدية على أرباب الثراء الفاحش الذين صنعهم فساد مبارك ، والذين سرقوا حقوق المصريين في العيش في مساواة وعدالة إنسانية ، ولم يتم توفير أنابيب الغاز والبنزين 80 لمنع المشاجرات بين الناس ، لأن هذا الوقود يمثل عصب الحياة لمعظم المصريين البسطاء والفقراء وكذلك يمثل لهم الحياة ولقمة العيش.

وضوح الرؤية أمام معظم المصريين فيما يخص البلطجة ومن يشرف عليها ومن يمولها ومن يديرها ، وكيف يختفي البلطجية فجأة ويظهرون فجأة.

أمور كثيرة ظهرت جلية خلال العام الماضي وعلى رأسها البرلمان الحالي الذي يبين إلى أي مدى تم التعاون بين المجلس العسكري والاخوان للوصول لهذا البرلمان ، وهذا ليس اتهاما بتزوير الانتخابات ولكن الإجراءات التي تمت بها الانتخابات في توزيع وتوسيع الدوائر بهذه الطريقة ، وفي طريقة وأسلوب الانتخاب أو التصويت ، وغض الطرف عن بعض مخالفات وتجاوزات الأخوان أدى بصورة واضحة لنجاحهم باكتساح للبرلمان بهذه النسبة ، وهذا يصب في مصلحة المجلس العسكري وقتلة الثوار من مبارك لأصغر ضابط وجندي ، لأن أول ما فكر فيه الأخوان بعد فوزهم في المرحلة الأولى من الانتخابات (الترويج لفكرة) لا يمكن أن أسميها إلا خيانة واضحة للثورة والثوار وهي اقناع أسر الشهداء بقبول الدية من القتلة وطالبوهم أن يعفوا ويصفحوا ويقبلوا الدية والمالية من القتلة ، ولإثبات التهمة عليهم أعلن كثير من أهالي الشهداء قيام بعض المشايخ والدعاة التابعين للسلفيين والاخوان بالتفاوض مع أسر الشهداء للتنازل عن حقوقهم وقبول الدية في دماء ذويهم لإنقاذ الضباط القتلة من المشانق ، رغم أن الدية في الشرع لا تجوز إلا في حالة القتل الخطأ ، ورغم ذلك لم يخجل هؤلاء بعرض فكرة قبول الدية وشراء دماء الشهداء التي لا يمكن أن تقدر بمال الدنيا.

سؤال للقضاء المصري وأساتذة القانون هل من حق محامي المخلوع أن يقول في ساحة المحكمة أن مبارك لا يزال رئيسا لمصر.؟ إذا كان هذا غير قانوني فيجب أخذ إجراء مناسب حيال هذا المحامي ، وفي جميع الأحوال لا أعتقد أن من حق دفاع مبارك أن يقول مثل هذا الكلام رغم اقتناعي أن من حق نفس الدفاع أن يعلن ويطالب ببراءة موكله المخلوع ، لكن هذا المخلوع تم إجباره بإرادة شعبية قوية أن يخرج من القصر ، فليس من حق أي إنسان أن ينعته بالرئيس بعد خلعه فهذا استخفاف بالمصريين وبثورتهم واستهزاء وسخرية واضحة بأنفس الشهداء ودمائهم الطاهرة التي نجحت في خلع هذا القاتل من كرسيه وطرحه أرضا ذليلا يدعي ويمثل المرض أمام العالم.

الأحداث خلال عام وضعت جميع فئات الشعب المصري في اختبار حقيقي أمام أنفسهم هل لا زالوا يؤمنون بثورتهم أم نجح أعداء الثورة في إجهاض الحس الثوري وإجهاد الإرادة الثورية داخل المصريين ، وخلق حالة شعبية عامة ترفض الثورة وتسبها وتصفها بأنها سبب كل بلاء وخراب حل بالمصريين ، وما أراه بعد نهاية هذا اليوم أعتقد وأتصور أن الثورة المصرية لا تزال حية في قلوب معظم المصريين ، ولا تزال تنبض بقوة.

لكن من وجهة نظري أقول أن الثورة المصرية بدأت اليوم الأربعاء 25 يناير 2012م ، والسبب أن الشعب المصري معظمه رفض الاحتفال بالثورة لأن مطالبها لم تتحقق رفض الاحتفال حزنا على شهدائها رفض الاحتفال لأن القصاص العادل لم يتحقق ، وكذلك استفاد الشعب من عام كامل من العمل الثوري المستمر ، وفي نهاية هذا العام أفرزت الأحداث البرلمان المصري وإن كان لا يعبر على الإطلاق عن الثورة المصرية ، ولكن هذا البرلمان سيكون العامل الأول لتحقيق جميع مطالب الثورة بالإجبار وبالإرادة الثورية الشعبية ، وفي الحقيقة أقول هذا ليس ثقة في النواب مع كامل احترامي لهم جميعا ، ولكن لأن المجلس العسكري كرّس جهوده لكي يفوز الاخوان بأغلبية في البرلمان ليتركوا منصب رئيس الدولة لأحد الشخصيات العسكرية وبذلك تتم الصفقة بينهما ، ولكن إن شاء الله تعالى سيكون هذا البرلمان هو عامل الضغط على المجلس العسكري وعلى الحكومة في تنفيذ جميع مطالب الثورة ، وسَيُـجْـبَـر هذا البرلمان على المطالبة بمحاكمة جميع القتلة والمجرمين والسارقين والفاسدين ، وسَيُـجْـبَـر هذا البرلمان نفسه على العمل بجد لاسترداد أموال المصريين في الداخل والخارج ، وسَيُـجْـبَـر هذا البرلمان على فعل كل شيء مع الثورة ليحقق جميع مطالب الثورة رغما عنهم ، أقول هذا الكلام لأن الاخوان منذ الأيام الأولى للثورة جلسوا للتفاوض والحوار مع عمر سليمان ، ثم مع المجلس العسكري ، وظهر هذا التفاوض والاشتراك الواضح في المصالح بين الاخوان والسلفيين منذ البداية في استفتاء 19 مارس ، ثم دفاع الأخوان بوضوح عن المجلس العسكري والمطالبة ببقائه في السلطة ، وكذلك وصف بعض دعاة السلفية المجلس العسكري بأنه ولي الأمر ولا يجوز الخروج عليه كما قالوا عن مبارك في الأيام الأولى للثورة ، وتبلورت هذه المصالح المشتركة في هذا البرلمان الحالي الذي يظن المجلس العسكري أن هذا البرلمان سيناصر المجلس ويحافظ على وضعه أو على الأقل سينجح في تنفيذ اتفاقية الخروج الآمن التي لم يجرؤ أي مواطن مصري التحدث عنها إلا الأخوان الذين اختارهم الناس مُرغَـمين أو مستفيدين أو مؤيدين ، أعتقد أن جميع المصريين الذين اختاروا الاخوان لن يسمحوا لهم أبدا أبدا تسليم مصر من جديد للحكم العسكري ، وكذلك لن يسمحوا أبدا للأخوان أن يتواطؤوا في محاكمة القتلة واسترداد أموال المصريين ، وإن لم يفعلوا هذا فهم يثبتون للمصريين ويؤكدون اتفاقهم مع العسكر على صفقة حقيقية هي البرلمان لنا والرئاسة لكم.

إذن على هذا البرلمان أن يقف مع الثورة ويثبت حسن النوايا ويطالب بتحقيق جميع مطالب الثورة كاملة لتحقيق العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والمحاكمة السياسية للقتلة ، بدون أي تأخير لأن الشعب كوّن ثقافة ثورية عالية ويستطيع التعامل مع جميع المواقف وبطريقة سلمية ، ولابد أن يعلم الجميع أن أقوى إرادة هي إرادة الشعب ، ولن تستطيع قوة في العالم أن تكسر إرادة الشعب المصري ، لأن الشعب المصري نفسه هو من كسر حاجز الخوف وقهر أجهزة القمع التي نجحت بامتياز في تطبيق أعلى درجات القمع والقهر والاستبداد خلال أكثر من نصف قرن مضى ، أعتقد أن قوة مثل هذه القوة مهما زادت أو قلت بمرور الوقت لا يجب أن يستهان بها أو يتم تجاهلها ، الثورة المصرية بدأت اليوم فعلا لأنها أسقطت الاستبداد السياسي في عام ، ولو لم يعمل البرلمان على تحقيق مطالب الثورة المصرية كاملة فإرادة الشعب قادرة على إسقاط الاستبداد الديني الذي نزل التحرير اليوم يحتفل بنجاح الثورة أو يحتفل بنجاحه هو فيما حققه من مكاسب خاصة ، وكأن هؤلاء يسيرون في طريق بعيد تماما عن طريق الثورة ، اعتقد أن الثورة المصرية قادرة على اسقاط أي استبداد سياسي أو ديني ، ولذلك أكرر الثورة المصرية بدأت اليوم الأربعاء 25 يناير 2012م ، رغم المراهنة المستمرة من أعداء الثورة على يقظة المصريين وعلى ذاكرتهم الثورية وقدرتهم على التحمل والصبر والاستمرار على نفس الحالة الثورية النشطة وقدرتهم على تحمل مزيد من الشهداء والمصابين ، أثبت المصريون أنهم أقوى من أي شيء ، اليوم الشعب ظهر أكثر قوة وثقة ، كان المكسب الأبرز خلال عام هو كسر حاجز الخوف في قلوب معظم المصريين.

مصر لسه بخير

مصر لسه بخير والثورة لسه فيها الحياة

مهما حاربها الغير بكرة هاتلاقي طوق النجاة

شعبها قال تغيير وهو دا هدفه وهمه ومبتغاه

مفيش تاني رجوع مفيش تاني خضوع

مفيش ظلم وذل وقهر دا كله خلاص .... نسيناه

هاترهبونا هاتقتلونا الخوف خلاص .... ودعناه

الخميس، 5 يناير 2012

رؤيــة فـي تـحــديـث الـتـعــلـيـم الـمـصــري ....الـمـقــال الأول

رؤيــة فـي تـحــديـث الـتـعــلـيـم الـمـصــري ....الـمـقــال الأول

تمهيد:

إن مخالطة المخلصين من العلماء المبدعين والمفكرين المصلحين المستـنـيرين يساهم بشكل كبير جدا في بناء الشخصية الإنسانية ويساهم في تشكيل ملامحها وطرق تفكيرها ومدى اهتمامها وانشغالها بهموم الوطن ، ووضع مصلحة الوطن فوق المصلحة الشخصية ، إن ممارسة الحوار والنقاش مع هذه الثلة من المفكرين المصلحين ينمي ملكة الإبداع داخل الإنسان خصوصا لو كانوا دائما ينزلون لمستوى بسيط جدا ومنطقة سهلة تسمح بالتواصل بين طرفي النقاش.

ومن حسن حظي اعتبر نفسي ممن يخالط ويحاور ويجالس العلماء ، وبدأ ذلك مبكرا جدا بسبب قرابتي واتصالي الدائم بالدكتور احمد صبحي منصور ، ثم في عام 1997م ، حين كنت أذهب معه لحضور رواق ابن خلدون ، ومن الشخصيات الهامة التي تعرفت عليها هناك المرحوم الأستاذ الدكتور/ محمد أبو الإسعاد ـ وفي الحقيقة هذا الرجل لا أنسى أبدا ملامح وجهه حينما كان يتحدث في أي موضوع يخص مصر ومستقبلها ، فكنت أراه مهموما بمصالح مصر ودائم الانشغال بإصلاح كل شيء فيها وخصوصا التعليم وهو صميم تخصصه كأستاذ جامعي ، ومن الكتب الرائعة التي قرأتها له ـ كتاب (رؤية في تحديث التعليم المصري) ، وبعد قراءة هذا الكتاب الذي تم تأليفه في عام 1991م ، وهو في الأساس يناقش ويلقي الضوء على فكر (أحمد لطفي السيد) في تطوير التعليم المصري في بدايات القرن العشرين ، وتحديدا في عام 1928م ، قررت كتابة تعليق عليه ونشره ، ومن أهم الأسباب التي دفعـتـني لنشر هذا الكتاب مرة أخرى وإحياء فكرة تطوير التعليم من جديد سببين أحدهما: أن التعليم المصري لم يتغير فيه أي شيء ، بل ازداد سوء وفسادا وخواء وتخريبا للعقول ، ثانيهما: تطابق أو تشابه الظروف السياسية والاجتماعية التي تمر بها مصر وقت مشروع أحمد لطفي السيد (بعد ثورة 1919م ) مع نفس الظروف الحالية في مصر (بعد ثورة 25يناير 2011م) ، وفي هاتين الفترتين التاريخيتين نرى أن مصر تقوم بثورة شعبية ، ويعقبها ظهور تيار ديني يسيطر على العامة بفكر ديني وهابي صحراوي لم يتغير ، وهذا الفكر كان ولا زال مدفوعا من الدولة الوهابية ، يريد جر مصر إلى الوراء وإرجاعها قرونا طويلة وإحياء ثقافة التقليد الأعمى للنصوص وإجهاض العقول ودعوة صريحة للجمود الفكري وقتل الإبداع داخل شباب وأطفال هذا البلد ، بالإضافة أننا فعلا بعد الثورة في حاجة ماسة لإصلاح التعليم المصري لأن إصلاح التعليم معناه النهوض بالمجتمع كله ، فلو انصلح حال التعليم والمتعـلمين ، فمن المؤكد أنهم سينـتـشلون المجتمع لينهضوا به في كل شيء ، ويخلصونه من سيطرة أي فكر رجعي مهما كان ، وهذه مقارنة تاريخية كان يجب الإشارة إليها حتى نؤكد ونذكر الشعب المصري أن آل سعود لم ولن ينسوا ثأرهم من مصر ويصرون كل الإصرار أن تسقط مصر صريعة للفكر الوهابي انتقاما من مصر والمصريين لأن التاريخ أثبت أن مصر كانت سببا في إسقاط دولة آل سعود مرتين في عام 1818م ، وفي عام 1891م.

والآن مع المقال الأول من الكتاب

ويتلوه تعقيب بسيط:

********************************************************************

رؤيـة في تحديث التعليم المصري

مقدمة

التعليم المصري بين القديم والحديث

1ــ انطوى الإسلام منذ نشأته في القرن السابع الميلادي على طريقة كامله في الحياه ذات قواعد وقيم ونظم ركن اليها المسلمون واطمأنوا حتى أخريات القرن الثامن عشر عندما بدأ احتكاكهم بالحضارة الاوربية وتوالت هزائم المسلمين على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين وثارت التساؤلات حول مدى صلاحيه نطام الحياة الاسلامية لطبيعة العصر وأدى ذلك الى ظهور فريقين.. الفريق الاول دعى الى التخلي عن الماضي وتبنى جميع الأفكار والمثل العليا الغربية وهذا الفريق عرف بالمدرسة التغريبية حيث نادت باستيراد أفكار الغرب في التحديث واستقاء الإصلاح من الينابيع الغربية.... والفريق الآخر نادى باستقاء الاصلاح من الينابيع الاسلامية والتمسك بالماضي والعودة بالإسلام إلى أصوله الأولى ممثلة في القرآن والسنة ، وهذا الفريق عرف بالمدرسة الإسلامية أو المدرسة السلفية ، واشتد الصراع بين أنصار الفريقـيـن فاتهم دعاة التغريب والتحديث أنصار السلفية بالرجعية والتخلف والجهل وندد السلفيون بأنصار التغريب واتهموهم بمعاداة الحضارة الإسلامية والكفر بالدين الإسلامي.

وأدى هذا الجدل الحاد بين الفريقين إلى محاولات توفيقية تمثلت في ظهور فريق ثالث وقـف موقـفا وسطا وحاول أن يوفـق بين الحضارة الغربية والقيم الإسلامية ويأخذ من كل منها بقدر وعرف هذا الفريق بأنصار الإصلاح.

2ــ وقد انعكس هذا الجدل بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية ومحاولة التوفيق بينهما على ميدان التعليم فتحمس فريق للأفكار التربوية الحديثة التي ظهرت مع الحضارة الأوروبية الحديثة ودعا إلى الأخذ بنظم التعليم الحديثة ونظرياته وطرقه ووسائله ومناهجه ، وتمسك الفريق الآخر بالفكر التربوي الإسلامي ودعا إلى المحافظة على نظم التعليم الإسلامية المتوارثة ، وحاول الفريق الثالث التوفيق فأخذ عن التعليم الأوروبي بعضا من نظمه ومناهجه ليصلح بها بعض جوانب التعليم التقليدي المتوارث عن الحضارة الإسلامية ، وفي بادئ الأمر كان التعليم القديم أو التعليم الديني الإسلامي هو وحده الذي عرفه المصريون حتى بدايات القرن التاسع عشر فكان الأزهر ومدارس المساجد والكتاتيب هي وحدها مصدر التعليم والثقافة في البلاد وكانت مناهج الدراسة تنحصر في علوم اللغة العربية والدين الإسلامي إلى جانب بعض الغيبيات كعلوم التصوف والنجوم والحروف والوفاق وغيرها من الغيبيات ، ثم أنشأ محمد على مع مطلع القرن التاسع عشر التعليم المدني الحديث ليعد التلاميذ وفقا للمثال الغربي الذي يعد التلاميذ للحياة الدنيوية ومن ثم أصبح هناك نظامان للتعليم: نظام التعليم الديني القديم في الأزهر والكتاتيب ونظام التعليم المدني الحديث.

3ــ وقد استعان محمد على في مدراس التعليم المدني الحديث الذي أنشأه بمدرسين من الأزهر لتعليم علوم اللغة العربية والقرآن ونقل هؤلاء المدرسين معهم إلى مدارس التعليم المدني الحديث بعض كتب الازهر الخاصة بتعليم الدين واللغة العربية ، ولم يحمل مدرسو الأزهر معهم الكتب فحسب بل حملوا معهم كذلك طريقة طلاب الأزهر في الدرس وهى الحفظ والاستظهار وتعدى الحفظ كتب الدين واللغة إلى حفظ كتب العلوم الحديثة وقوى هذه الطريقة شدة الاهتمام بالامتحانات فأصبحت ظاهرة الحفظ والاستظهار من أخطر الظواهر التي اقترنت بالتعليم المصري حتى اليوم ، وبذلك أثّـر التعليم القديم في التعليم المصري الحديث تأثيرا واضحا وأصبح التعليم الحديث في شكله أوربيا وفى روحه أزهريا ، فلا شك أن كتب الأزهر ورجال الازهر كان لهم أكبر الأثر في بث روح الأزهر في المدارس الحديثة فاحتل تعليم القرآن وعلوم اللغة مكانا بارزا وأصبح أسلوب الدراسة الازهرية القائم على الحفظ والاستظهار هو أسلوب المدرسة المصرية الحديثة التي انشأها محمد على ، وقد حاول فريق من الغلاة الدفاع عن طريقة التعليم الإسلامية التي تمثلت في التلقين والحفظ والاستظهار.

4ــ وربطوا بين طريقة التعليم الاسلامية وبين الدين الإسلامي واعتبروا الهجوم على طريقة التعليم الاسلامية نوعا من الهجوم على الاسلام ذاته كدين ، وذهب البعض الى القول بأن البشرية لم تعرف في تاريخها كله نظاما تربويا بالسعة والشمول الذى يتميز به منهج التربية الاسلامية وأن طريقة الاسلام في التربية التي تعتمد على القرآن توقظ الحس في النفس وتوجه القلب إلى الله وتقيم الصلة الدائمة مع الله ، وذهب البعض الآخر الى ان تعليم القرآن بطريق التلقين بمعنى أن الطفل يكرر ما يذكره المعلم من فقرات الى أن يتم له حفظها بطريقة آلية دون ان يعنى المدرس بالشرح في هذه المرحلة وتوضيح المعنى لتعذر الفهم على الطفل قد يبدو طريقة مخالفة للطرق الحديثة في التعليم التي تعنى بالفهم ليتيسر الحفظ ولكنها دلالة على كل حال على روح التقوى والحماسة الدينية الشديدة التي يتميز بها ذلك العصر فالبدء في تعليم الطفل بتحفيظ القرآن خير وبركة وتقوى كما أن فيه ضمانا لعدم النسيان ، وذهب البعض الآخر الى أن النظرية الاسلامية في التربية قامت على أهمية تلاوة القرآن وحفظه وأنها اعتمدت على حيوية ذاكره الطفل وقدرته على الاستيعاب في الصغر وتحصيل مالا يستطيع تحصيله في كبره ومن ثم بادرت التربية الاسلامية الى ملء ذاكرة التلميذ في صغره بشتى المعارف دون التفات الى القاعدة التربوية التي لا تجيز للإنسان ان يحفظ إلا ما فهم بيد أن خطورة طريقة الحفظ من غير فهم انها تُـكَـوِّن لدى الفرد عادة الاكتفاء بالألفاظ وعدم التفكير مما يكون له أثره السيء في تكوين الفرد الفكري فالعادات التي تتكون لدى الطفل تصبح طبيعة لا يسهل الاقلاع عنها ، وقد تصدى فريق آخر من المفكرين لنقد طريقه التربية الاسلامية واسلوبها فالتعليم باعتباره أسلوبا مختلفا ويؤدى الى تكريس التخلف فذهب البعض الى أن الابتكار هو القدرة على إدراك فكرة جديدة وانتاج آراء أو مخترعات أو اعمال جديدة في الفن والعلم والأدب وان الفرق بين الشرق والغرب هو في هذا الابتكار فنحن (الشرقيون) مقلدون وجامدون على القديم والدنيا تقوم على الابتكار والاختراع فهل هذه التقليدية وقلة الابتكار من طبيعة عقلنا أو من سوء تربيتنا.؟

وأجاب على ذلك قائلا...

5ــ المسألة ليست مسألة عقل وإنما هي التربية التي لا تبعث على روح الإبداع ولا تحقق قدرة على الابتكار لأنها تقوم على منهج النقل والوقوف عند النقل والمحافظة على الجملة بل على اللفظة بل على الحرف وهو أسلوب طبيعي في حدود علم الحديث والسنة وحده وإنما الغلط جاء من تعميم هذا المنهج وتطبيقه بشدة وقسوة على سائر العلوم فسيطر المحدثون وفرضوا منهجهم في كل العلوم وساد النقل وتقديس الألفاظ وطبعت العلوم كلها بطابع العلم الحديث ، وقد كان تعليم هذا المنهج سبب في أن العقلية العربية الإسلامية وقعت في فخ التقليد وحرمت من الابتكار ونشأت الأجيال على هذا المنهج وأصبح التخلص منه عسيرا يحتاج إلى فترات كبيرة وسنين طويلة وذلك بسبب أسلوبنا في التربية فالتربية التي تقيس الطالب بمقدار ما حصل واطلع لا بمقدار خلقه وإبداعه وبمقدار حفظه لا بمقدار نقده والتربية التي تقدس الكتاب ولا تقدس التجربة والمدرس الذي يُحَاسِب الطالب على ما أملى ويؤاخذه على ما خلق والامتحان الذي يرتب الممـتحــنـيـن حسب كثرة استذكارهم لا حسب كفايتهم كل هذه الضروب من التربية تنتج التقليد وتميت الابتكار ، والتربية الصحيحة هي التي تُـكَـوِّن المبتكر والمبدع والشخصية الناقدة.

6ــ وذهب البعض الآخر إلى أن طريقة التقليد في العقلية هي طريقة تعتمد على الترديد والحفظ بحيث لا يبقى مجال للتساؤل والبحث والتجريب فتؤدي طريقة التقليد إلى نقل قيم المجتمع وعاداته إلى صميم التركيب الذهني للفرد وإلى قبوله لها دون تفهم أو نقد ذلك أن التلقين هو طريقة تسلطية في التعليم تجعل المتعلم يستجيب باكتساب عادة الصَّــمْ والحفظ والاستظهار الأمر الذي يؤدي إلى إبعاد الفهم والإدراك ويعود التلميذ على قبول الأشياء دون اعتراض أو تساؤل ومن خلال ذلك يتعلم اللغو ومن ثم تعطل طاقة الإبداع الكامنة في الإنسان ، ذلك أن طريقة التلقين هي عملية إرهاب مباشر إذ تهدف إلى التسليم بما يتعلمه الفرد ويحفظه دون تساؤل أو تفهم فيصبح العقل أداه تردد وحفظ بدلا من أن يكون وسيلة تحليل ومعرفة ونقد فيتعرض التلاميذ في هذه الطريقة إلى الكبت الذهني إذ تكبل طريقة التلقين عقول التلاميذ وتحد من نموهم الذهني إلى الحد الذي يمكننا معه وصف عملية التلقين بانها عملية خصي فكري لعقلية المتعلم وفوق ذلك فهذه الطريقة تعكس تسلط المعلم وتعزز سلطته وتؤمن خضوع التلميذ له عن طيق التسميع والاستظهار بدون فهم والتسديد على الذاكرة والتحقق من النصوص وكل ذلك يؤدي إلى تعزيز توجيه النمو العقلي نحو الكفاءة الكلامية بعيدا عن التساؤل والاستفسار فيؤدي النظام المبني على التسلط والاستظهار بدون فهم إلى قتل روح المبادرة لدى التلميذ وكبت اندفاعه نحو النقد والإبداع لأن الحرية شرط أساسي من شروط النمو العقلي الصحيح.

7ــ وقد أثارت طريقة التربية الإسلامية القائمة على الحفظ والاستظهار عددا من المشكلات المتصلة بعلم النفس التعليمي فقد ثبت أن الاعتماد على الحفظ والاستظهار يقضى على قدرة التحليل في الإنسان وأن هذه الطريقة تقتل القوة المبدعة في العقل البشري والتي يتم عن طريقها تركيب الصور والمعاني بعضا إلى بعض واستخراج نماذج جديدة منها وهذا يتطلب كثيرا من العوامل الذهنية كالإدراك والتجريد والاستدلال كما أنه لا يمكن للإنسان أن يستخدم الخيال كأساس للاختراع والابتكار إلا إذا اعتمد على قدرة التحليل لتحليل المركبات القديمة وقدرة التركيب لإنشاء المخترعات الجديدة وإذن فقدرة التخيل وما يرتبط بها من قدرات عقلية هي أساس الاختراع والإبداع الذي هو الأساس في بناء مختلف جوانب الحضارة الإنسانية في العلوم والفنون والآداب ومن هنا خطورة التمسك بطريقة التربية الإسلامية القائمة على الحفظ والاستظهار لأنها تقتل قدرة التخيل وتقضي على كل ما يتصل بها من قدرات عقلية كذلك فإن الشخص الذي يقوم ذكاؤه على أساس تمثل عدد من الحقائق المفككة غير المترابطة عن طريق التلقين والحفظ والتكرار لا يتوقع أن يكون مبدعا بينما الشخص الذي تكون لديه القدرة على تمثل عدد أقل من الحقائق لكنه يستطيع استخدامها بطريقة مرنة ويكون لديه الدافع لتعلم حقائق جديدة فإنه يمكن أن يكون مبدعا ومن ناحية أخرى فالإبداع يحتاج إلى قدرة نفسية على الثبات لكي يتحمل الفرد المبدع عبء ما يثيره ابداعه من اضطراب في العقول العادية حيث يعكر الإبداع صفو العادات ويعطل الأساليب القديمة في التفكير ولذلك فالمبدع لابد أن يكون شجاعا ولديه القدرة على المجاهرة بما يراه وعلى التمسك برأيه في مواجهة الآخرين والتربية القائمة على التلقين لا توفر الشخصية الاستقلالية.

8ــ ولا أعتقد أن أي من المتعلمين المصريين لم يعان بدرجة أو أخرى من طريقة التربية الإسلامية القائمة على التلقين والحفظ والاستظهار والقهر ويمكننا أن نجد في السيرة الذاتية لكثير من أعلامنا من أمثال الإمام محمد عبده والدكتور طه حسين كثير من الأمثلة والشواهد التي تؤكد عيوب طريقة التربية الإسلامية ومدى المعاناة التي عانوها من جراء طريقة الحفظ والاستظهار بل إنه لو ؟أن أي منا راجع مسيرته التعليمية في مراحلها المختلفة واسترجع تجاربه في مختلف مراحل التعليم لخلص إلى أن كثير من المعاناة التي تعرض لها كانت بسبب طريقة التلقين والحفظ والاستظهار التي مازالت إلى اليوم هي أساس نظام التعليم المصري.

9ــ وقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن قضية تطوير التعليم واشتد الجدل والخلاف في محاولة تبين الأسس الاستراتيجية لهذا التطوير الذي وصفه البعض بالعشوائية ووصفه الآخر بالعلمية.

وهذه الدراسة تستمد من تجاربنا التاريخية الأسس الاستراتيجية لتطوير التعليم المصري وتحديثه فتعرض لأفكار لطفي السيد التربوية ودوره في التعليم المصري خلال عامي 1928/1929م كما تعرض للأفكار التربوية التي وردت في تقريري الخبيرين الأجنبيين( مان) و (كلاباريد) اللذان استعان بهما لطفي السيد في محاولة التعليم المصري وتحديثه.

10ــ وإعادة كتابة التاريخ تثبت لنا أن ما نادى به الوزير المصري لطفي السيد والخبير السويسري الدكتور كلاباريد والخبير الإنجليزي مان مازال أساسا صالحا لبداية تطوير حقيقية لنظم التعليم المصري ، وهذه هي القيمة العلمية للدراسة التاريخية لقضايا التعليم المصري ومشكلاته ومن هنا فإن هذه الدراسة هي أساس علمي جاد في عملية تطوير التعليم المصري.

انتهت المقدمة

دكتور / محمد أبو الإسعاد يناير 1991م

************************************************************************

الـتـعــلـيــق :ــ سيكون على كل فقرة حسب رقمها....

1ــ هناك خلط واضح بين الإسلام كدين وبين تدين المسلمين وفكرهم وثقافتهم وقدرتهم على استخراج ما في القرآن من كنوز لا تحصى ولا تعد ، والسبب هو تركهم للقرآن وهجرانه واختراع دين وتدين آخر مبني على الأحاديث والسير ، وكان هذا هو السبب الحقيقي في هزائم المسلمين ، لأنهم لم يأخذوا بتعاليم القرآن التي تحس على العمل الجاد والبحث والسير في الأرض ، وهنا ظلم للإسلام حينما نسمي نظم ومناهج حياة المسلمين بالحياة الإسلامية منقوم به وما نمارسه هو تدين إسلامي وفكر إسلامي أما الإسلام فهو أرقى وأعلى وأسمى من أن نختزله في شخص أو شعب ، ولذلك عندما نخطئ فكريا او عقائديا نرجع للإسلام في القرآن نصحح ونقوم أنفسنا ، وفي نفس السياق المدرسة الإسلامية حسب مفهومهم الخاطئ تدعو للعودة إلى الرجعية والتخلف والجمود وهذا عكس الإسلام الحقيقي الموجود في القرآن الذي يدعو للتفكر والتدبر.

2ــ تكرار نفس الخطأ ونفس المصطلح ـ(التربية الإسلامية) ـ على طرق التدريس التي كانت سائدة في الأزهر ، لأن طرق التدريس هذه ليست إسلامية ولكنها ناتجة عن ثقافة المسلمين وتأثرهم بفكر معين يدعو للجمود والخنوع والخضوع وتقديس النص واللفظ ، وهذا تحديدا ما نجح فيه رواة وأئمة الحديث حين حولوا معظم علماء المسلمين إلى آلات لنقل العلم من جيل إلى جيل بفصه ونصه دون التجرؤ على النقد أو الاجتهاد ، فكان الحفظ والتلقين والاستظهار هو سيد الموقف وهو الأسلوب الطاغي والمسيطر على المُـعلم والمُـتَـعلم ، وانتقل نفس المرض التعليمي والعلمي إلى نظام التعليم المدني ، ومن وجهة نظري أن هذا يرتبط ارتباطا وثيقا بمبدأ السمع والطاعة السني الحنبلي ، كما اعتقد أنه كان مقصودا أيضا ، ولذلك أحذر بعد ثورة يناير من سيطرة الوهابية حتى لا تجـر مصر وشعبها إلى الهاوية.

3ــ نظام التعليم في الأزهر كان مبنيا على الحفظ ولا زال ، حتى يومنا هذا فطلاب الأزهر يحفظون القرآن وكتب الفقه والحديث والتفسير ، بغرض اجتياز الامتحانات ، ولا مجال للتفكير والإبداع والتدبر وإظهار أي وجهة نظر في أي شيء يدرسه الطالب ، هذه العلاقة هي المتعارف عليها في جميع مؤسسات الدولة في التعليم بين المدرس والطلاب ، في المسجد بين الإمام والمصلين ، لغة التواصل هي التلقين ، والمستمع عليه السمع والطاعة.

4ــ رغم أنهم في تطبيقهم لمنهج (التربية الإسلامية) يخالفون القرآن الكريم إلا أنهم يضعون حاجزا مانعا حول هذه التربية الإسلامية ويجعلون من الهجوم عليها هجوما على الإسلام ، وهي تتناقض تماما مع تعاليم القرآن وأوامره وهذا يحتاج إلى توضيح: نظم التعليم في البلاد الإسلامية تعتمد على الجمود والتكرار والنقل والحفظ والاستظهار وعدم التفكير أو الإبداع ، لكن على العكس تماما نجد القرآن الكريم يدعو البشر جميعا إلى السير في الأرض والتفكر في خلق كل شيء بدء من خلق الإنسان نفسه إلى التفكر والتبصر في خلق السموات والأرض وتحدث القرآن عن نزول المطر والظواهر الجوية وتكوين الجنين وكيفية خروج النباتات من باطن الأرض وأمرنا ربنا جل وعلا أن نقرأ القرآن نفسه بتعقل وتدبر وتفكر في كل آياته وكلماته وهو كتاب ربنا جل وعلا ، لكن على النقيض تماما تجد المسلمين يقدسون النصوص البشرية ويحرمون الاجتهاد والتفكر وإبداء الرأي فيها ، هذه إحدى المصائب التي أصيب بها المسلمون وتأثر بها التعليم في مصر ، ورغم أن القرآن الكريم سبق الغرب وأمريكا بقرون في وضع مناهج تعليم سليمة تنهض بأي مجتمع يأخذ بها إلا أن معظم المسلمين إلى الآن لم يدركوا هذا ، والفكر القرآني ورواده وحدهم لديهم الحل ، لديهم رؤية حقيقية قرآنية ، ومنهج وبرنامج مستنبط من القرآن الكريم يمكن من خلاله إصلاح التعليم المصري ، لكن هل من مجيب.

إذن القرآن الكريم سبق الأوروبيون بقرون في وضع مناهج صحيحة للتعليم والتربية والإصلاح لكن العيب في المسلمين لأنهم فضلوا مناهج الجمود وقتل الإبداع والابتكار، وكما أشرت كان هذا مقصودا و ممنهجا.

5ــ في هذه الفقرة تحديدا يتجلى ما أشرت إليه في مسألة تقديس اللفظ والنص عند النقل وهذا ما يحدث الآن في الأزهر يتم طبع الكتب كل عام وتوزيعها على المعاهد وفيها ما فيها ولا يستطيع أحد تصحيح كلمة واحدة لأنهم يقدسون ما فيها من كلمات ، ولم يأت هذا من فراغ ، ولكن كل شيء له أساس فعلم الحديث والمحدثين أسس قاعدة وأرضية ليست هينة من العلماء والدارسين الذين وهبوا أعمارهم لدراسة علم الحديث والرواة والجرح والتعديل كما هي بأسلوب النقل والحفظ والتكرار.

6ــ وفي نفس السياق وتأثرا بكل ما سبق تتحول العلاقة بين المُـعلم والمُـتَعلم إلى علاقة قدسية لا يمكن للمُتـَعلم أن يعترض على معلمه أو يناقشه ، ومن وجهة نظري أن هذه العلاقة كانت هي السائدة بين الفقهاء ورجال الدين وبين العامة ، فكلاهما مترابط بالآخر ويؤثر فيه ويتأثر به.

7ــ ربنا جل وعلا بين في القرآن الكريم أن القرآن يكون هدى ورحمة ونور على بعض الناس ، و قد يكون ضلالا وظلمات على البعض الآخر ، وهذا بالطبع يرجع لكيفية التعامل مع القرآن ، وهذا ما توصل إليه علماء النفس من تأثير الحفظ والاستظهار فإن هذا يقضي ويقتل ملكة التحليل والابتكار والإبداع عند البشر ، والقرآن أيضا سباق في هذا لأنه يدعو للتفكر والتخيل في ملكوت الله جل وعلا باختصار يدعو للتحرر وإعمال العقل.

8ــ أرى من وجهة نظري أن استخدام منهج تعليمي واحد مع جميع الدارسين هو أسلوب خاطئ لأنه يتجاهل ظاهرة الفروق الفردية بين البشر وتفاوت مستوياتهم الفكرية والعقلية ، وهذا أيضا لم يتجاهله القرآن ولكن ربنا جل وعلا فضل بعضنا على بعض في العلم والجسم والرزق والعقل.

9ــ إن عملية تطوير التعليم ترتبط ارتباطا وثيقا بالتدين السائد في المجتمع ، ومن وجهة نظري أول خطوة في تطوير التعليم هي عملية تقنين عمل المدرس بحيث يمنع أي مدرس من تدريس فكره الشخصي للطلاب بالإجبار ، وهذا ما حدث ويحدث في مدراس مصر ومعاهد الأزهر ، فالمدرس الاخواني أو السلفي يفرض فكره الشخصي ورؤيته الشخصية للدين على الطلاب دون رقيب ، وبتطبيق مبدأ السمع والطاعة والخنوع والتلقين لا يجرؤ طالب على الاعتراض ، وبهذه الطريقة تربى جيل وراء جيل على الجمود والخنوع والخضوع وتحولوا إلى عبئ على الدولة لأنهم أشباه متعلمين ، وهنا تكمن الخطورة ، فمن حق كل إنسان أن ينتمي او يعتنق ما يشاء من الفكر لكن ليس من حقه أن يفرض فكره على طلابه داخل حجرات الدراسة المغلقة.

10ــ أكرر وأقول إن مصر حاليا تمر بظروف مشابهة للمرحلة ما بعد ثورة 19 ، حيث بدأ الغزو الوهابي لمصر عام 1928م ، الدولة الآن هشة ورخوة ويسهل اختراقها سياسيا وفكريا وعلميا ، وبعد الثورة نجح التيار الوهابي في الانتخابات بأغلبية واضحة وهذا ينذر بالخطر على التعليم المصري وعلى الشعب المصري كله ، ولابد من إصلاح هذا التعليم وإنقاذه من الوقوع فريسة للفكر الوهابي من جديد إذا كنا فعلا نريد أن نحمي مصر وشعبها ونجني ثمار هذه الثورة العظيمة.

وإلى اللقاء في المقال الثاني.....