قضايا هامة في معتقدات مسلم ـ الجزء الأول
بعد قراءة كتاب المسلم العاصي ـ للدكتور ـ أحمد صبحي منصور ـ وجدت أنه من الممكن أن أنشره على شكل مقالات منفصلة ... في موقعنا وفي مواقع أخرى ..
أولا ـ أبدأ بتوضيح شيئين أساسيين هما : ـ
أ ـ أن الناس يوم القيامة على قسمين ـ أو فريقين كما سماهما رب العزة جل وعلا ـ فريق في الجنة وفريق في السعير ..
ب ـ توضيح معنى المسلم العاصي ـ هو الذي مات عاصيا لرب العالمين، دون توبة خالصة في الدنيا ـ وهذه المشكلة لها جذورها التاريخية .
1ـ من أهم هذه الجذور (الأماني) ـ بمعنى أن يعيش الإنسان عاصيا لرب العالمين ويريد أن يدخل الجنة في الآخرة ..
، وحتى لو فرض أن دخل هذا المسلم العاصي النار ـ فإنه يُمني نفسه أنه سيدخل النار لفترة قصيرة ثم يخرج من النار ليدخل الجنة ، وسبب هذه الأمنيات هو الشيطان الذي أعلن أمام رب العزة جل وعلا أنه سيضل أكثر أبناء آدم ، ويُمنيهم الأماني الكاذبة ـ ليضلهم عن ذكر الله (لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ـ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ) النساء : 118 ،119 ـ وتظهر عبقرية الشيطان هنا في ربطه للإضلال بالأماني ـ فإن الإنسان الذي يَضل إذا عرف أنه ضال ـ سيبادر بالتوبة أحياناً ، أما إذا كان عاصيا ضالا ويعرف أنه في النهاية سيدخل الجنة ، أو إذا دخل النار سيخرج منها بعد أيام قليلة ـ فلماذا التوبة والعمل الصالح وغيره من الأعمال التي تؤهله لدخول الجنة ، ولماذا التفكير في كل هذا أصلا ـ والأماني موجودة تسيطر على العقائد وتيسر المسائل ..
2ـ والشيطان له أساليبه وطرقه المحكمة للسيطرة على الناس ليقنعهم بالأمنيات التي توافق أهواءهم ، مثل الأحاديث التي يروجها أتباعه وينسبونها للدين ظلما وعدوانا لتكتسب صفة القدسية عند الناس وبالتالي ينغر بها كل مغرور ، يقول تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) الأنعام ـ
4ـ بني إسرائيل ـ وأول الأماني ـ لقد أنزل الله التوراة لبني إسرائيل يقول تعالى (ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) الأنعام ـ ولكن الشيطان لم يقدم استقالته فغوى بعض بني إسرائيل وجعلهم يحرفون الكتاب وأضافوا افتراءات ومن أهمها أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودة ، ولأن هذه الافتراءات كانت تشجعهم على العصيان فانتشرت حتى أصبحت من أساسيات الدين لديهم .. وحين نزل القرآن الكريم في الجزيرة العربية كان الأميون من اليهود يعتقدون أن التوراة هي الوثيقة التي ستدخلهم الجنة بدون عمل لمجرد أنهم يهود ـ وقد وصفهم الله بأنهم أميون مع أنهم كانوا يحترفون الكتابة وأنهم قاموا بتزوير الكتاب السماوي التوراة ـ وهنا إشارة إلى تضيعهم الكتاب السماوي الذي تميزوا به عن العرب الأميين الذين لم يأتهم كتاب مثل أهل الكتاب ، يقول المولى عز وجل عن هذا (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) البقرة :78 ـ وأولئك الأميون الذين حسبوا أن التوراة أماني وقعوا ضحية لمن حرفوا وزيفوا الدين من قبلهم ، ولذلك قاموا بكتابة تلك الأكاذيب المحرفة المزيفة ونسبوها لله تعالى يقول جل شأنه (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) البقرة : 79 ـ
ومن أهم ما حرفوه وكذبوا به على الناس ، وتكسبوا منه في نفس الوقت ـ الأماني في الخروج من النار وهو ما يعرف بصكوك الغفران ـ يقول تعالى عن ذلك (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) البقرة : 80 ـ وبعد أن سِخـَر الله منهم ومن أفعالهم وأقوالهم ، وأنهم لا عهد لهم مع الله ، وأنهم يقولون على الله ما لا يعلمون يقول سبحانه وتعالى ليَضع قاعدة قرآنية محكمة (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة : 81 ـ فالإنسان العاصي الذي أدمن المعاصي حتى مات بلا توبة خالصة لله فإن مصيره جهنم خالدا فيها ، وفي المقابل يقول تعالى عن أهل الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة :82 ـ وبهذه الآيات القرآنية الواضحة ـ إما خلود في النار لمن مات عاصيا بلا توبة ، وإما خلود في الجنة لمن آمن وعمل صالحا ، وليس هناك مرحلة وسط بين هذا وذاك ..
وحتى تتضح الصورة أمام المسلمين ولا يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب فإن القرآن الكريم كرر نفس الرد على ادعاءات أهل الكتاب بالخروج من النار ، فقال عن إعراضهم عن الاحتكام إلى القرآن(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ) آل عمران :23 ، وسبب إعراضهم على الحق القرآني أن القرآن الكريم فند وحطم كل أمنياتهم التي يعتقدونها في خروجهم من النار إذا دخلوها عصاة يقول تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) آل عمران : 24 ـ ثم يرد عليهم المولى عز وجل ليوضح ويقرر لهم ما ينتظرهم يوم القيامة من عدل مطلق يقول تعالى (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) آل عمران : 23
5ـ وهذه الأمثلة التوضيحية عن القوم السابقين لم يذكرها رب العالمين عبثا في القرآن الكريم ، لكن ـ ليحق الحق ويزهق الباطل ، ولكيلا يقع المسلمون فيما وقع فيه اليهود والنصارى من قبل ـ فالقرآن جاء كتابا عالميا لكل البشر، إلى قيام الساعة ، ولابد أن تكون الحقائق فيه واضحة ترد الزيف والتزوير في أي زمان وأي مكان ـ ولأن الشيطان لم يقدم استقالته ـ حين انتشر الإسلام بعد الفتوحات الإسلامية ، ولكن الشيطان وجد من أبناء اليهود والنصارى خير أعوان له ليضل المسلمين ، ويمنيهم مثلما فعل مع أهل الكتاب من قبل ، خصوصا بعد أن عرف المسلمون الحرب الأهلية والاقتتال فيما بينهم وانغمسوا في الترف والعصيان ، ولكي يستمروا في غيهم وفي حياتهم اللاهية دون رادع ودون مانع كان لابد من أمنيات دخول الجنة بالشفاعات والخروج من النار بعد دخولها ..
ولم يكن صعبا على المسلمين في العصر العباسي أن يعيدوا ما قاله آباؤهم من اليهود والنصارى ، فأقوال الأسلاف تراث قومي لابد من المحافظة عليه من الأبناء ، خصوصا أن أبناء البلاد المفتوحة هم من كتبوا الحضارة الإسلامية ، فكتبوها وفق ما اعتادوه قبل الفتح العربي ، ولكي يملئوا الفجوة بين القرآن وبين واقع حياتهم وضعوا الأحاديث الضالة والتفسيرات الإسرائيلية .. فالقضية إيمان وعمل صالح وبهما يدخل الإنسان الجنة بوعد من الله عز وجل ، أما وعد الشيطان للعصاة فالأمر ليس أماني لذا تقول الآية التالية تحذر من وقوع المسلمين فيما وقع فيه أهل الكتاب يقول تعالى (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا) النساء : 123 ـ ويقول تعالى عمن يقرن الإيمان بالعمل الصالح (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) النساء ك 124 ـ فالعاصي يدخله الله النار بعصيانه ولا يجد له وليا ولا نصيرا ، وهذا ما أقره القرآن الكريم ، والمؤمن الذي عمل الصالحات يدخله الله الجنة ، وليس هنا مرحلة وسط بين الاثنين ..
ورغم التحذيرات الواضحة المتكررة في القرآن الكريم إلا أن الأمنيات وجدت طريقها عبر أحاديث منسوبة للرسول ، وقد لاقت هذه الأحاديث رواجا وانتشارا كبيرا لأنها تناسب الأهواء وتعطي الناس مبررا للاستمرار في المعصية ، وما أسهل انتشار هذه الدعوات الهدامة ، وخاصة إذا ارتبطت بالدين أو انتسبت لله أو الرسول ظلما وعدوانا .
أرجو أن أكون وفقت في هذا العرض وإن شاء الله سأقوم بعرض باقي أجزاء الكتاب وإلى اللقاء مع الجزء الثاني ..
رضا عبد الرحمن على ـ مدرس بالأزهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق