الخميس، 5 أبريل 2012

تـدبـر معـنـى الـفـســاد فـي الـقــرآن الـكــريــم

تـدبـر معـنـى الـفـســاد فـي الـقــرآن الـكــريــم

مقدمة

ربنا جل وعلا خلق هذا الكون بكل ما فيه من مخلوقات بشرية وحيوان ونبات وجماد وأرض وسماوات ونجوم ومجرات بقدر و مقدار و ميزان وهو (ميزان الخلق الإلهي) الذي تحدث عنه رب العزة جل وعلا في آيات عدّة في القرآن الكريم منها قوله جل شأنه (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ)الرحمن:1 : 10 ، وفي آخر الآيات نجد تحذيرا ضمنيا للبشر ألا يُخسروا هذا الميزان أي يفسدوه بالعبث في الطبيعة والنمط والتقدير الدقيق الذي خلق به ربنا جل وعلا هذا الكون بكل ما فيه في قوله (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) ، وبعد ذلك يقول جل وعلا عن تكليف البشر وإرسال الرسل إليهم بالبينات والكتاب والميزان الذي يرشدهم أن يقيموا القسط فيما بينهم (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)الحديد:25

وفي تنبيه موجه للإنسان أن هذه الأرض جعلها ربنا جل وعلا للإنسان ليعيش عليها وله معايش على ما ينبت في ترابها من كل شيء موزون أيضا (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ)الحجر:19 ،20

ربنا جل وعلا الذي خلق كل هذا هو مالك الملك وله ملك السماوات والأرض ومن فيهن ورغم ذلك فهو غني عن الولد وعن الشريك في هذا الملك العظيم لأنه قادر على أن يخلق كل هذا وبقدر معلوم(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)الفرقان:2، وفي الجزء الأخير من الآية بيان الإعجاز الإلهي في خلق كل شيء (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) والتقدير هنا هو أعلى درجات الخلق أو الْجَـعْـل على الإطلاق.

وسنجد هنا أن الميزان والقسط والتقدير والمقدار والقدر والعدل كلها معاني مترادفة تظهر قدرة الله جل وعلا في خلق هذا الكون بمواصفات وصفات معجزة يستحيل على البشر أن يخلق مثلها وهذا ما يسميه (أحمد صبحي منصور) الميزان في الخلق ، ومن جهة أخرى تعني وتظهر أن التزام الإنسان بهذا الميزان وهذا القسط وهذا العدل والقدر في سيره في الأرض وفي تعامله مع هذا الكون بكل ما فيه هو طريق النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة وهذا ما يسميه أحمد صبحي منصور (الالتزام بميزان الشرع).

ومن هنا ندخل على موضوع بحثنا المتواضع عن بعض معاني الفساد كما جاءت في القرآن الكريم ، والفساد هو الضد الطبيعي للعدل والقسط والميزان والإيمان بالله وحده بلا شريك ، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله.

من القراءة الأولية لجميع الآيات التي تكرر فيها الحديث عن الفساد والإفساد والمفسدون في الأرض أستنبط أن للفساد أقسام:

أولها: الفساد العقيدي ـ ومن خلال آيات الذكر الحكيم يمكن أن نضع تعريفا مبسطا للفساد العقيدي بأنه الشرك بالله أو الكفر بآيات القرآن الكريم يقول تعالى((وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ)يونس:40 ، الكفر والصد عن سبيل الله فساد في الأرض يستحق فاعله عذابا فوق العذاب (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)النحل:88 ، يقول تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)آل عمران:62 ، 63 ، و لأن هذا الكون لا يتحمل أن يكون فيه إلهين اثنين ، ولو فرض وحدث ذلك لفسد الكون بما فيه كذلك فإن عقيدة الإنسان لا تقبل وجود إله معبود إلا الله ولو اتخذ الإنسان إلاها آخر مع الله لفسدت عقيدته بالشرك(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)الأنبياء:22 ، والشركلا يغفره رب العزة أبدا كما قال جل وعلا(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً)النساء:48 ، وهذه الآية العظيمة تدخلنا لمعنى آخر متداخل مع معنى الفساد العقيدي وهو الافتراء على الله ، والافتراء على الله جل وعلا نوعين:ـ إما أن تشرك بالله أي تتخذ إلاها مع الله كما وضح في الآية (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) ، وإما أن يكون الافتراء على الله بتكذيب آياته أو بالكذب عليه جل وعلا بتلفيق أحاديث وأكاذيب لم ينزل بها سلطانا وتنسبها لله جل وعلا يقول تعالى(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )الأنعام:21 ، وهذه الآية تضيف لنا معنى مرادف للفساد والافتراء وهو الظلم لأن ربنا جل وعلا يصف من يفتري عليه الكذب أو يكذب بآياته بأنه أظلم الناس ، هذا التداخل والتناغم والتواصل بين آيات القرآن الكريم يؤكد لنا ولكل مؤمن بالله وبقرآنه أن القرآن الكريم لا يمكن فهمه إلا من خلال آياته وكلماته ، لكن أولا لابد أن تتوافر لدى الباحث النية الصادقة الخالصة وأن يُسلم نفسه وقلبه وعقله للقرآن وآياته ومفرداته ويسير دبر الآيات وألا يفرض عليها وجهة نظره.

ثانيهما : الفساد في الأرض ــ وله صور مختلفة (فساد يرتبط بمحاربة رسل الله وقتلهم بغير حق وقتل كل من يأمر بالقسط من الناس ، والصد عن سبيل الله ) ، و(فساد يرتبط بالتعاملات اليومية بين البشر ، والسعي في الأرض وإفسادها بالعبث في ميزان الطبيعة ، أو الاعتداء على قوم بيننا وبينهم ميثاق وعهد).

1ــ الصد عن سبيل الله ومحاربة الأنبياء والمرسلين والمؤمنين الصالحين ودعاة الإصلاح في كل زمان ومكان يقول تعالى (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)الأعراف:85 ، 86 ، (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)الأعراف:103 ، ولمزيد من التوضيح في هذا المقام نذكر آية قرآنية عظيمة تبين ملامح الفساد لمن يكفـرون بآيات الله أنهم يقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)آل عمران:21

2ــ الغش في الكيل والميزان وخداع الناس بالباطل من أجل مكاسب دنيوية يقول تعالى (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِين)الأعراف:85 ، (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)هود:85

3ــ نقض العهد مع الله وقطع الأرحام (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ)البقرة:27 ، وهنا تداخل بين الفساد في الأرض ونقض العهد والميثاق الذي يترتب عليه اللعنة و الخُسران في الآخرة أو سوء الدار في الآخرة (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)الرعد:25 ، وتكرر في القرآن الحديث عن قطع الأرحام والفساد في الأرض في قوله تعالى(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)محمد:22

4ــ الاعتداء على قوم بيننا وبينهم ميثاق ربنا جل وعلا يجعل هذا الاعتداء فتنة وفساد كبير ويتضح هذا في سورة الأنفال في قوله تعالى(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، ثم يقول جل وعلا محذرا في الآية التالية(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)الأنفال:72 ، 73 ، ويؤكد هذا قوله جل وعلا في أمره للمؤمنين ألا يبدؤا بالاعتداء على أحد حتى في الحرب يكون الدفاع برد الاعتداء فقط يقول تعالى(فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)البقرة:194

من صفات المفسدين في الأرض

ــ نظرتهم لكل مؤمن ومصلح :ــ

ــ من صفات المفسدين التي تحدث عنها القرآن بكل وضوح أن المفسد دائما ينظر لكل إنسان مُصلح مؤمن داعية للحق والتنوير على أنه مفسد يقول تعالى(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ )البقرة:11 ، 12 دائما من ينشرون الكفر ويكذبون بآيات الله يرون أنفسهم مُصلحون ، ليس هذا فحسب وإنما ينظرون إلى المصلحين ومن يدافعون عن الحق وعن آيات الله جل وعلا أنهم هم الفاسدون ، ويصل بهم الحال أن يصفوا المخلصين والمؤمنين بأنهم سفهاء إذا دعوهم للإيمان (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ)البقرة:13.

ـــ بعض الفاسدين يكون حسن القول يعتز بما يفعله ، وحين توجه إليه النصيحة يرفض ويتكبر ويغـتـر ، ربنا جل وعلا يبين لنا صفة أخرى من صفات المفسدين في الأرض بأن كلامهم يعجب السامعين لكن في داخله كيد للإسلام والمسلمين لأنه خصما لهم مهما تظاهر بعكس ذلك(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)البقرة204 : 206 ، وأعتقد أن هذه الآيات والصفات من جهة تنطبق تماما على كثير من الخطباء والدعاة في عصرنا الراهن الذين لهم الفضل في تشويه حقائق الإسلام وإضلال الناس وخداعهم والضحك عليهم بدين زائف كاذب صنعه أعداء الإسلام من الفقهاء والمحدثين ، ورغم ذلك فهذا الزيف الذي صنعوه يلقى قبولا عند معظم المسلمين حين يتشدق به الخطباء ، وفي توضيح بليغ يبين ربنا جل وعلا أن خاتم النبيين عليهم جميعا السلام انخدع بالمنافقين ولذلك جاء هذا التحذير له ولنا من بعده من المنافقين في كل زمان ومكان يقول تعالى (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)المنافقون:1 : 5 ، وهي نفس الصفات تقريبا تنطبق على كل من يكذب بآيات الله ويصد عنها ويولي مستكبرا حين تنصحه أو تدعوه إلى الحق القرآني وهذا يؤكد ما قاله رب العزة وحاجتنا له في كل زمان ومكان.

ومن جهة أخرى فالآية(205) من سورة البقرة تنطبق على الفاسدين الذين خربوا البيئة المصرية البكر باستيراد البذور والمبيدات والهرمونات المسرطنة ، واستيراد القمح الفاسد ، ليس هذا فحسب فلو قرأنا الآية من جديد (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) سنجدها تنطبق على كل إنسان يساهم في تلويث البيئة التي يعيش فيها مثل تلويث مياه النيل بالقمامة وبإلقاء الحيوانات الميتة ومخلفات المصانع ووضع القمامة في الطرقات والمساهمة في أي فعل يؤثر سلبا على طبيعة الحياة وفطرتها النقية السليمة وإحداث خلل في الميزان التي خُـلقت عليه ، فكل هذا يُعد ضمن الفساد في الأرض.

ــ مهما كان الإنسان كافرا بالله وبرسله وكتبه فإنه ينظر إلى الرسل وكأنهم يريدون أن يفسدوا في الأرض ويحاول قتلهم والخلاص منهم حتى لا يبدلوا دين الآباء والأجداد (حسب فهم الكفار) ، كما قال فرعون عن موسى عليه السلام(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ )غافر:26 ، وكذلك قال قوم فرعون على موسى (وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)الأعراف:127

ــ وتكرر هذا أيضا مع خاتم النبيين في قوله تعالى(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)سبأ:43.

ــ المفسد الكافر دائما يكره الحق القرآني ، وهكذا كان حال كفار قريش كانوا يكرهون الحق وكانوا يريدون قرآنا يتناسب مع أهوائهم ، ولكن لو حدث هذا لكان سببا في فساد السموات والأرض(وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)المؤمنون:71

ــ السحر والدجل والشعوذة والكذب على الناس من أنواع الفساد في الأرض يقول تعالى(فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)يونس:81 ، إذن جميع من يضحكون على الناس بدعوى إخراج الجن والعلاج بالقرآن والرقيا الشرجية والكذب على الناس باسم الدين واستغلال القرآن الكريم للحصول على مكاسب مالية يعتبر فساد في الأرض.

ــ السرقة وكل ما شابهها من أفعال تعتبر فساد في الأرض بمعنى أوضح أن كل إنسان يأخذ أو يحصل على شيء ليس من حقه ــ وساء كانا مالا أو وظيفة ــ بطريقة غير شرعية وغير قانونية فهو مفسد في الأرض يقول تعالى عن أخوة يوسف عليه السلام حين دافعوا عن أنفسهم (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ)يوسف:73 ، ومن أمثلة السرقة أيضا بخس الأشياء في البيع والشراء وفي التعامل اليومي بين الناس يقول تعالى(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)الشعراء:183

ــ تكذيب المعجزات والآيات هي صفة أصيلة عند المفسدين كما فعل قوم موسى حين كذبوه رغم تصديقهم معجزته ، لكن اتهموه بالسحر (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)النمل:14.

ــ ولأن الفساد في الأرض هو مرادف الظلم والكفر والكذب على الله أعتقد أن الفساد له معنى يقوم به معظم المسئولين في الدولة المستبدة ، وهو عدم تطبيق مبدأ العدالة والمساواة بين أفراد الشعب الواحد ، ونعطي أمثلة ، أعتقد أن وزير التربية والتعليم وشيخ الأزهر وجميع وزراء مصر حين يجلس كل واحد منهم في مكتب ومبنى تكلف كل منهما ملايين من الجنيهات ويتركون معظم طلاب المدراس والأزهر يجلسون على مقاعد تتسبب لهم في انحرافات قوامية وعجز نسبي في أجسادهم فهذا فساد ، ناهيك عن رواتبهم ومقارنتها برواتب المدرسين والموظفين في الدولة ، ومن جهة أخرى فإن ماكتبهم جميعا محاطة بالحدائق والأشجار والمساحات الواسعة الخضراء وأماكن انتظار السيارات وأمن وحراسة مشددة ، بينما معظم المدراس والمعاهد الأزهرية محشورة وسط المباني تحيطها الورش والمصانع والقهاوي والأسواق والتـُرب أحيانا ولا يوجد متنفس للطلاب في معظم المدارس للترفيه واللعب لأن معظم المدارس والمعاهد بلا مكتبات أو ملاعب أصلا ، ولا يخفى على أحد وسائل المواصلات التي تسخرها الدولة لهؤلاء الوزراء بينما بعض موظفي الدولة لا زال يكرب الحمير ، بالطبع هذا النموذج ينطبق على جميع مؤسسات الدولة الفاسدة ، كما أعتقد أيضا أن علاج المسئولين في الدولة خارج مصر بملايين الجنيهات وفي المقابل معظم المواطنين لا يجدون ثمن العلاج ، ومعظم مستشفيات الحكومة لا تتوفر فيها الإمكانيات والخدمات التي لا يمكن مقارنتها بالعلاج على نفقة الدولة في الخارج ، فكل هذا فساد في الأرض وكان أجدر بمشايخنا الذين صدعونا بالحديث عن النقاب والحجاب ورضاع الكبير أن ينطقوا بالحق ويظهروا حقائق الإسلام من القرآن ويوقفوا هذا الفساد في حق البلاد والعباد ، لكي يأخذ كل مصري حقه في ثروات بلده لنعيش جميعا في عدل ومساواة.

أخـيــرا:ــ

وبعد هذا العرض المتواضع يؤكد ربنا جل وعلا أن الفساد لم يظهر في الأرض (البر والبحر) إلا بأفعال الناس وسلوكياتهم ومخالفتهم للميزان الإلهي في الشرع والخلق (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )الروم:41 ، ربنا جل وعلا هو العدل وهو الحق ولا يظلم أحدا لذلك فإنه تعالى لا يساوي أبدا بين الذين أمنوا وعملوا الصالحات ــ أي التزموا الميزان الشرعي ــ وبين الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أو المفسدين في الأرض(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)ص:28.

ما جاء في هذا البحث مجرد تدبر واجتهاد بشري يقبل الخطأ قبل الصواب ولا أفرضه على أحد.

هناك تعليقان (2):