المقال الثاني :
الفصل الأول
أحمد لطفي السيد
فكره التربوي ــ دوره في التعليم
"إن طريقة التعليم التي تقوم على التلقين لا تنمي من الملكات إلا ملكة الحافظة أو ملكة التقليد أما الملكة المفكرة ملكة الإبداع والاختراع ملكة الإدراك والتفكير ملكة الذوق السليم ملكة العالم والكاتب والسياسي والفيلسوف فلا مجال لها في التعليم الذي يقف عند حد قل المعلومات والاعتماد على المحفوظات"
أحمد لطفي السيد
**********
1ــ ولد أحمد لطفي السيد في قرية برقين من أعمال مركز السنبلاوين بمدرية الدقهلية في 15 يناير 1872م وكان والده السيد(باشا) أبوعلي من كبار ملاك الأراضي الزراعية وعمدة للبلدة ، والتحق أحمد لطفي بكُتّـاب القرية حيث حفظ القرآن ثم التحق في عام 1882م بمدرسة المنصورة الابتدائية وكان التعليم فيها آنذاك ذا صبغة عسكرية قاسية وكان الضرب والحبس في الزنزانة من أنواع العقاب الشائعة في المدارس آنذاك كما كانت روح الجندية هي السائدة على نظام المدارس ثم التحق في عام 1885م بالمدرسة الخديوية التجهيزية (الثانوية) بالقاهرة وحصل على شهادة البكالوريا (إتمام الدراسة الثانوي) في عام 1889م.
ثم التحق بمدرسة الحقوق وأخذ اهتمامه بالسياسة يظهر في مدرسة الحقوق حتى حصل على ليسانس الحقوق عام 1894م حيث عُيّـن في سلك النيابة وزاد اهتمامه بالسياسة واتصل بمصطفى كامل والخديوي عباس حلمي الثاني الذي دفعه إلى السفر إلى سويسرا وقضاء سنة فيها لاكتساب جنسيتها ليتمتع بالامتيازات الاجنبية فتساعده في مقاومة الاحتلال البريطاني والاشتغال بالحركة الوطنية وقضى في جنيف عاما درس فيه بعض العلوم الفلسفية.
ولما عاد قدّم تقريرا إلى الخديوي عباس في عام 1897م بخطته السياسية التي توصل إليها والتي مؤداها أن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود ابنائها وأن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بأن يرأس الخديوي حركة شاملة للتعليم.
وعاد لطفي السيد إلى ممارسة عمله في النيابة حتى استقال في عام 1905م حيث اشتغل لفترة قصيرة بالمحاماة ثم انصرف في عام 1907م إلى الاشتغال بالصحافة والسياسة فاشترك في تأسيس حزب الأمة ورأس تحرير صحيفة الجريدة واستمر على ذلك لثمان سنوات حتى اعتزل الصحافة والسياسة وعاد للاشتغال بالوظائف العامة فعُـيّـن في عام 1915م رئيسا لنيابة بني سويف ثم مديرا لدار الكتب المصرية حيث ترجم عددا من المؤلفات الفلسفية لأرسطو ثم استقال من الوظائف العمومية في نوفمبر 1918م ليشترك في تأليف الوفد المصري ويسهم بدور سياسي في احداث الثورة المصرية(1919 / 1922) ثم عاد في عام 1922م إلى وظيفة كمدير لدار الكتب المصرية كما تولى وكالة مجلس إدارة الجامعة المصرية الأهلية حتى إذا ما تحولت الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية عام 1925م ، ترك لطفي السيد دار الكتب وتفرغ مديرا للجامعة المصرية.
2ــ وفي يونيه 1928م تولى أحمد لطفي السيد وزارة المعارف في وزارة محمد محمود فشغل المنصب لمدة 15 شهرا عندما استقالت وزارة في أكتوبر 1929م وعاد بعدها لطفي السيد مديرا للجامعة فيما بين (1930/ 1932) ثم استقال ليعود إليها مرة أخرى فيما بين (1935 / 1937) ثم شغل عـدة مناصب وزارية إلى أن عاد مديرا للجامعة فيما بين (1938/ 1941) عندما تركها لينضم إلى عضوية مجلس الشيوخ ثم تولى رياسة مجمع اللغة العربية فيما بين 1944 وحتى وفاته في عام 1962م.
فِـكْـــرُه الـسـيـاســي:
كان لطفي السيد ينتمي إلى ذلك الفريق من المصريين الذين رأوا في الحضارة الأوربية الحديثة طريق الخلاص لمصر من إسار تخلفها وتأخرها ولذلك دعى هذا الفريق إلى تحديث مصر وفقا لنموذج الحضارة الأوروبية الحديثة ، وكان لطفي السيد يدعو إلى إحلال العقلية الأوروبية محل العقلية الغيبية التي تميزت بها الحضارة العربية الإسلامية وتبنى لطفي السيد النموذج الحضاري الغربي في تحديث وتمدين المجتمع المصري.
ــ وكان لطفي السيد ينظر للحضارة الغربية بشقيها المادي والثقافي كـكـل واحد مـتكـامل ومن ثم اعتبر أن التقدم العلمي الصناعي الذي أحرزته أوروبا لا يمكن فصله عن القيم الثقافية والفكرية التي كانت بمثابة قاعدته وأساسه ومن ثَـمّ فإنه من غير الممكن اقتباس الانجازات المادية دون أن تأخذ معها الأسس الثقافية والفكرية التي تصاحبها والقيم التي تقوم عليها وتنطلق منها ، ولذلك دعى لطفي السيد إلى نقل المؤسسات والأفكار الغربية إلى مصر وإحداث عملية تحول شاملة تصل إلى جذور المجتمع وأعماقه وتمس كل جوانبه وأبنيته الاجتماعية لكن دون أن يعني ذلك رفض الدين بالضرورة فليس هناك ما يمنع من أن يظل الدين أساسا للعلاقة بين الإنسان وربه وأن يظل أحد مصادر الثقافة الوطنية للمجتمع.
ودعى لطفي السيد إلى تطبيق العلم والثقافة الأوروبية الحديثة على المجتمع المصري واعتنق المفهوم الأوروبي العلماني الخاص بالدولة القومية فدعى إلى القومية المصرية لتحل محل الخلافة الإسلامية ونادى بفصل الدين عن السياسة ونظام الحكم واعتنق لطفي السيد المبادئ الليبرالية ونادى بالديمقراطية النيابية كتعبير عن سيادة الإرادة العامة للأمة كما دعى إلى تنظيم الصناعة الحديثة واقتباس الروح العلمي الكامن وراءها واستهوته الثقافة الغربية وأخذ بالمنهج النقدي السائد في الفكر الأوروبي وأعجب لطفي السيد بأوروبا وليبراليتها ونظمها الديمقراطية وروحها الإنسانية وتساوى الناس فيها ورأى أن الحضارة الغربية تستـند إلى قيم روحية عميقة وآمن بضرورة اتخاذ المجـتمع الأوروبي مثلا يحتذى.
فِــكْــرُه الـتــربـــوي:
3ــ التعليم والاستقلال الوطني :ــ أدرك لطفي السيد أهمية التربية والتعليم للنهوض بالأمة وتحقيق استقلالها ولذلك دعى مواطنيه إلى أن يصرفوا أفكارهم وهمهم كلية لأقرب وسائل التربية والتعليم وأوفرها نتيجة وأكثرها ملاءمة للغرض المقصود وهاجم الذين يشككون في فوائد التربية والتعليم واتهمهم بأنهم يحاربون الحق الواضح والعلم الصحيح ويحاربون وطنهم واستقلالهم المنشود وما كانت حجة هؤلاء في القول بأن نتيجة التربية بعيدة الأثر إلا حجة واهية فعليهم أن يقربوها بنشر التربية وأحكامها فإن الطريق الطويل هو أقرب الطرق متى كان هو الموصل الوحيد ، وأكد لطفي السيد باستمرار على أن التعليم هو السبيل إلى الحكم الذاتي وناشد المصرين قائلا إن أردتم الاستقلال فحولوا ألسنتكم وأقلامكم وشيئا من قوامكم وقليلا من أمواكم إلى التربية والتعليم فإنها السبب الوحيد للاستقلال ولا شيء غيرها.
فلسلفته التربوية :ــ حدد لطفي السيد فلسفته التربوية في عدد من المقالات يمكن أن تستخلص منها المعالم الرئيسية لفلسفته التربوية في المبادئ التالية:ــ
المبدأ الأول:ــ هو أن الطفل نتاج بيئته فالطفل في ملكاته واستعداده هو نتيجة لمقدمات وقواعد من الوراثة الجنسية لا يستهان بأثرها في تكوين ميوله وملكاته كما أنه في نفس الوقت خاضع في حاضره ومستقبله لقوانين الارتقاء العام تطور وتغير من ماهيته المعنوية كما تغير من صورته الحياتية وتطبع في نفسه مشاعر خاصة من العائلة التي ينشأ منها والبيئة التي تحيط به.
المبدأ الثاني :ــ هو اختلاف مذاهب التربية ونظرياتها فوسائلنا لإدراك الحقائق والتعليم ليست إلا حواسنا غير الكاملة والمتغيرة في كل لحظة ومن ثم فالتربية علم متغير ليس له قوانين جامدة بل تختلف فيه النظريات وتتنوع الآراء فهناك من يغلب العقل والعلوم المادية وهناك من يغلب الروح والعلوم اللـدنية ومن العسف أن نضع قاعدة واحدة بشكل قطعي لأمزجة مختلفة ولابد أن نختار من المذاهب المختلفة أكثرها موافقة لحالنا وأدناها إلى تحقيق المثل الأعلى للرجل في خيالنا المصري.
المبدأ الثالث:ــ هو اختلاف البيئة التي ينشأ فيها الطفل فكما يختلف علماء التربية في نظرياتهم يختلف الآباء أيضا في طريقة تربية أطفالهم فكل أب يربي ابنه على ما يعتقد من الآراء والمذاهب ولذلك فلابد من التوفيق دائما بين المذاهب التعليمية وبين ما يجري للأطفال في بيوت آبائهم.
المبدأ الرابع:ــ هو اختلاف المثل الأعلى الذي نتوخاه من التربية فهناك من يرى أن الناس ولدوا متساويين في الملكات العقلية وفي الحالة الأخلاقية لكن الظروف التي تحيط بهم في المهد وفي الطفولة وفي التربية بمعناها الأوسع هي التي تفسر ما بينهم من الفروق في العمل وهناك من يرى أن قانون الوراثة وقانون النشوء والارتقاء هو الأكثر شيوعا وتأثيرا ويترتب على ذلك اختلاف في التربية فهل تكون مقاصد التربية توسيع دائرة المشابهات بين أفراد الأمة وتضييق دائرة الفروق حتى يسهل بينهم الاتفاق على أمهات المسائل وتتأكد بذلك روابط التضامن من بينهم أم الأولى اعتبار هذه الطريقة معيبة بجمعها بين المستعد للنبوغ وغير المستعد وليس لأمة أن تستغني بمعتليها العاديين عن علمائها النابغين.
المبدأ الخامس:ــ أن نَمَـط التربية يتغير من جيل لآخر بتغير المذاهب الفلسفية ولذلك يجوز لنا القول بأن التربية قد مرّت بالأطوار الثلاثة التي مرّت بها المعلومات الإنسانية فالمعلومات الإنسانية كانت لا صوتية في أول أمرها ثم تطورت فصارت ميتافيزيقية ثم تطورت فصارت علمية وهو ذاته ما حدث في التربية فكان المثل الأعلى في بادئ الأمر هو الزهاد المفسرين لكل الظواهر الطبيعية والعقائد اللاهوتية ثم انتقلت إلى تحكم الأقيسة العقلية ثم انتقلت إلى تحكيم العلم ونحن في مصر بحكم أننا تلاميذ أوروبا في كل شيء يجب علينا أن نتفهم كليات هذه المذاهب للتربية حتى نستطيع الأخذ بأيها يلائم عقائدنا والمثل الأعلى الذي نبغـيه ، لذلك يلخص الباحثون إلى أن الفلسفة التربوية للطفي السيد يمكن تلخيصها في ثلاث قواعد رئيسية :ــ
القاعدة الأولى: ان الإنسان خيّر بطبعه كما قال جان جاك رسو وأنه قابل للتربية والتهذيب ، وأن في استطاعة الأمة أن تقوم بإعداد أبنائها على أساس هذا الرأي.
القاعدة الثانية: هي ان الغرض للتربية والتعليم هو الحصول على صفة التوازن الخلقي والنفسي في الأمة وفي الفرد فعليهما معا أن يهتما بتنمية العقل وتمنية الجسم بقدر واحد فيهما تقريبا ،، فالأمة التي تعني بالعلوم العقلية وحدها مهملة الأمة التي تعني بالعلوم الرياضية وحدها مهملة والأمة التي تعني بالفنون الجميلة وحدها مهملة كذلك.
القاعدة الثالثة: هي ان الغرض من التعليم والتربية هو الحصول على أكبر قدر ممكن من التشابه بين أفراد الأمة الواحدة ذلك أن التشابه هو المصدر الحقيقي للألفة والألفة هي السبب الحقيقي في التضامن والوحدة والتضامن هو الطريقة للتقدم الذي ينشده المجتمع ولذلك من الضروري توحيد برامج التعليم حتى ينتج هذه النتيجة ويقرب بين طبقات المجتمع في الأخلاق والعادات والمشارب فتتقارب وجهات النظر في الأمة ، وحدد لطفي السيد أهداف التربية في غايتين ــ الأولى هي إنماء الشخصية أولا أو الاستقلال الذاتي في نفس الفرد والغاية الثانية هي إنماء المشابهات أو الخواص الاجتماعية في نفوس الأفراد وبعبارة أخرى يجب ان تكون التربية موجه لتمرين الفرد على الحياة الشخصية في أعلى مراتبها وتمرينه على الحياة الاجتماعية في اوسع معانيها فيستطيع المتعلم أن يوفق دائما بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة.
كما اكد لطفي السيد على اهمية أن يوكل وضع قوانين التربية لعلمائها الإخصائيين والذين لهم مرانة بالتطبيقات السيكولوجية والنظريات الاجتماعية لا أن تكون برامج التعليم والتربية نقلا بحتا من برامج الأمة التي لا اشتراك بيننا وبينها في شيء كثير من الحالات النفسية ثم يوكل تطبيقها إلى معلمين دون المستوى لأن مسألة التربية خطرة خطرا عظيما على البلاد في حالها وفي مستقبلها وكل خطأ في امرها تحصد نتائجه مصر بالأرباح المركبة في الأجيال المستقبلة وكل سنة تمضي بنا على تربية مضرة تعـيـقـنا في تقدمنا المنشود عشرات من السنين ومن الخطأ أن نترك امر التربية يسير على مجرى الصدفة.
حـــريــة الـتــعــلــيـم :ــ
4 ــ أكد لطفي السيد على أهمية أن يكون التعليم حرا وألا يكون للحكومة سلطان على التعليم وإنما يجب أن تتمتع الأمة بالحرية الكاملة في مختلف جوانب حياتنا من تعليم واجتماع وصحة واقتصاد وغيره من جوانب الحياة وكان لطفي السيد يرفض بشدة الحكومة الأبوية لأن معناها الخمول فهي تسهل للفرد أن ينام على فراش الكسل ويتركها تعمل ما تريد.
وكان لطفي السيد يرى أن التعليم يتبع سياسة الدولة فالأستاذ التركي مثلا يضع همه في تكوين إنسان يألف الظلم الذي يقع منه على غيره ويرضاه إذا وقع من غيره عليه ، أما الأستاذ الفرنسي فهمه أن يصور تلميذه على صورته ينفر من الملوكية ويرى الجمهورية واسطة السعادة القومية ولذلك كان لطفي السيد يرى أهمية أن تنزل الحكومة عن التعليم الى الأمة لأن التعليم الحر هو انفع من التعليم الحكومي
وكان لطفى السيد يرى أن التعليم في مصر فابريقات لإعداد التلاميذ لكى يفكروا بعقل الحكومة ويقدروا الحوادث بنظرها هي لا بأنظارهم المستقلة ورتب على ذلك ان تعليم الحكومة عقيم خطر لان الحكومة لم تأخذ على عاتقها تعليم الامة وتربيتها إلا لتصورها بالصورة التي ترضاها وتؤدبها بالأخلاق التي تتمشى مع مآربها من الحكم ، ورأى لطفى السيد ان التربية والتعليم من اختصاص رب العائلة وان الحكومة ليست أبا أحد منا ومن ثم فليس للحكومة أن تحتكر التعليم وتأخذه كرها على الآباء لكن الواقع أن الحكومة هي التي تضع برامج التعليم وأنماطه وهي التي تعطي وحدها شهادات التعليم المختلفة فهي بذلك تغل إيدي الأساتذة الأحرار عن أن يعلموا التلاميذ حُـسـن التفكير ويعودوهم على الاستقلال في الرأي وتعقل ألسنتهم عن أن يلقوا على الطلبة إلا ما كان في برامج الحكومة واقترح لطفي السيد تنازل الحكومة عن التعليم إلى الأمة فتضم المدارس العليا إلى الجامعة الأهلية وتنزل عن التعليم الأولى والابتدائي والثانوي والصناعي والزراعي إلى مجلس المديريات وتبقى نظارة المعارف مشرفة عامة على كل تعليم في البلاد تقرر الإعانة وتوزيعها على الطريقة المستعملة في انجلترا.
تـنــوع الـتــعــلــيــم وتـجـــزئــة الـعـقــل الـمــصــري:ــ
تعرض لطفي السيد لخطورة التجزئة الثقافية التي يعاني منها نظام التعليم المصري بانقسامه بين ثلاث أنواع من التعليم : هي التعليم الديني في الأزهر ، واالتعليم المدني الحديث ، ثم التعليم الأجنبي ، وطرح موقف المدرسة التربوية المصرية من الفلسفات الثلاثة للتربية اللاهوتية والعقلية والعلمية على أساس أن لكل أمة استعداد خاص بنوع خاص من انواع التربية تبعا للمسافة التي قطعتها في التطور والعادات والأخلاق لكن التربية الحالية في مصر ليس لها طابع خاص بها ولا اسم معين بين أسماء الأنواع المختلفة للتربية ، بل التربية عندنا هي أيضا في حال انتقال واختلاط هي أظهر ما لها من الصفات المميزة.
فالمثال الأعلى للرجل المتعلم المربي في نفوس العلماء المدرسين في الجامع الأزهر ليس هو المثل الأعلى في نفوس المعلمين في مدارس الحكومة ومن هم على شاكلتهم من المدرسين في مدارس التعليم الحر ولا هو بعينه المثل الأعلى في نفوس متعلمي البعثات الدينية المسيحية كالفرير والجزويت والبروتستانت أو مدارس التعليم الأوروبي اللّاديني كل ذلك إذا أعجبنا قد نفترض في هؤلاء المعلمين جميعا إدارة للتربية وخيالا ثابتا للمثل الأعلى الذي يراد إبلاغ النشيء إليه فرار من التصريح بأن من المتعلمين في هذه المعاهد من لا يفكرون كثيرا في المثل الأعلى وفي أنماط التربية بل يقصر همهم على كسب عيشهم الخاص.
وأوضح لطفي السيد أنه بين هذه العناصر المتنوعة والبرامج المتعاكسة والعقائد المختلفة والطرائق المشوشة المتناقضة نلقى بأبنائنا إلى تربية ليست موجهة إلى مثل أعلى موحد ومن ثم تعيش مدارسنا فيما يمكن أن تسميه فوضى تربوية فنسلم للصدفة أبنائنا ومستقبل بلادنا.
ورأى لطفي السيد أننا لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه الفوضى المخيفة لأن اهتمام الأمة بتسيير تربية النشيء على وفق إرادتها أمر أولي في نظر العقل وضروري لنجاحها وفي بلادنا نظارة المعارف العمومية النموذج للنظامات التعليمية بحكم أنها الأوفر خبرة والأكثر نفوذا والأكثر قدرة على التحكم في أمور التعليم ، ومن ثم فهي المطالبة بأن تكون تعاليمها موجهة نحو المثل الأعلى الذي نبغـيه من التربية والتعليم لكي يظهر في حالة التعليم في بلادنا لكن نظارة المعارف لا تريد أن ننتفع بتجارب الأمم السابقة لنا ولعلها أيضا لا تريد أن ننتفع بتجاربها الخاصة وليس لها مثل أعلى تتوخاه من وراء التعليم بل هي تضع البرامج ملفقة من البرامج الاوروبية مختزلة لتملأ بعض زوايا العقول النامية بقصاقيص من أطراف العلوم المختلفة وكأنها لا تنظر إلى أن لهؤلاء النشيء نفوسا يجب على المتعلم محاولة تهذيبها وقلوبا محتاجة إلى إنماء المشاعر الإنسانية والأطماع الوطنية في خباياها وكأن الصدفة هي كل ما لنا من قاعدة في التربية والتعليم.
ثم انتقد لطفي السيد التعليم الأهلي على النحو الذي كان عليه الكتاتيب فوصف فقهاء الكتاتيب بأنهم لا يحسمون شيئا وأن الصبيان يحشرون في غرفة ضيقة كسجون القرون الوسطى يفترشون أرجلهم ويحركون جذوعهم الصغيرة ويصيحون بأعلى صوتهم مكرهين ولا يدري الواقف عليهم عـلام يصيحون ولماذا هم خائفون ولم يلحظ العصا الطويلة التي في يد الفقيه ينزل بها على من يشاء فترى الغلمان بين باكٍ قد أوجعه الضرب وضاحك ساخر يصيح على نغمة من غير أن يلوك لسانه شيئا مما يحفظ ، فذلك المربي الأول لا يعرف من واجبات التربية والتعليم ألا شيئا واحدا هو إماتة عواطف التلاميذ بالضرب والسب والتخويف وبما فوق ذلك هو القتل الأول لشعور الحرية والمعطل الأكبر لنمو أبدان المتعلمين وملكاتهم إلا جزء مشوشا من ملكة الحافظة وهو نفسه لا يمكن أن يقدر أبسط الأمور تقديرا صحيحا لأن مقياس التقدير في نظره هو مجموع ما سمعه من معلمه الأول من القواعد العامة كورقة الحمى أو حجاب التحويطة أو المندل أو غير ذلك من الخرافات كما انتقد لطفي السيد التعليم الأجنبي على النحو الذي كان عليه في المدارس الأجنبية فلم يكن القسيس في مدارس الإرساليات التبشيرية الدينية الأجنبية يختلف كثيرا فقد كانت طريقة تأديبهم مثلا تكليف الصبي بأن يقبل الأرض أو يركع يجثو على ركبتيه أو يكتب الواجب الثقيل وأكبر الذنوب أن يتكلم الصبي حتى أنك لتراه يكف عن الكلام ولو صوابا.
وانتقل لطفي السيد أيضا إلى المدرسة المدنية على النحو الذي كانت عليه في المدارس الابتدائية فوصف معلم المدرسة الابتدائية بأن معلوماته لا تزيد كثيرا على معلومات طلابه وأنه لا يعرف شيئا من البيداجوجيا (التربية).
وخلص لطفي السيد إلى أنه إذا كان الولد يخلق على صورة أبيه وينشأ المتكلم على صورة أستاذه وقد رأيتم صورة أساتذة أبنائكم الفقيه والقسيس والمعلم فمن ذا الذي يريد لأبنائنا وهم مناط الرجاء في إسعاد هذه الأمة أن يكونوا على صورة ذلك الفقيه أو القسيس أو المعلم ولذلك فإن التعليم بطرقه الثلاث الحاضرة غير منتج الغرض الخاص الذي هو إنماء قوي الناشيء وملكاته حتى تبلغ كمالها الممكن ، وانتهى لطفي السيد من ذلك إلى أن ترك التعليم منقسما بين الأزهر والمدارس الحديثة والبعثات الأجنبية يؤدي إلى تفتيت الوحدة القومية ولذلك يجب أن يقوم التعليم العام على قاعدة واحدة تقلل من الفروق وتكثر من المشابهات بين أفراد المجتمع فإذا ضاقت بينهم الفروق سهل عليهم أن يكونوا مجموعا متشابه الأجزاء يكاد يرى بعين واحدة.
ويسمع بأذن واحدة ويحس بقلب واحد ذلك معنى الوحدة القومية التي ينشرها كل من يريد أن يحمل الأمة على الأخذ بأسباب سعادتها لأنه متى سهل الاجماع حصلت الوحدة القومية وكل تعليم لا يؤدي إلى هذه النتيجة إنما هو تعليم لا أصل له ولا فائدة.
اسـتــيـراد الـفــكــر الـتــربـوي:ــ
تصدى لطفي السيد لقضية على أعلى درجة من الخطورة وهي استيرادنا لنظريات الفكر التربوي من الخارج دون نظر للظروف والخصائص المميزة للمجتمع المصري.. ومع ان لطفي السيد كان من تلك المدرسة من المصريين التي رأت في الحضارة الأوروبية طريق التقدم والنهضة ودعت إلى النقل عنها والأخذ من مناهلها بقصد الانتفاع بها والاستزادة منها إلا أن لطفي السيد انتقد اقتباسنا لتنظيم التعليم عن الغرب حتى أنه وصف مدارس حكومتنا بأنه ليس فيها من المصرية إلا نسب التلاميذ والأرض القائمة عليها المدرسة إلى حد أنه يمكن القول بأن نظارة المعارف أصبحت عندنا مجرد شركة تعليم أجنبية كجماعة الفرير أو الجزويت ونحوهم.
وهاجم لطفي السيد القصور في وجود فلسفة تربوية مصرية توجه التعليم في مصر واعتماد المدارس المصرية على الاقتباس والنقل عن الغرب ووصف طرق التعليم في مدارسنا بأنها عقيمة وأن الحكومة أعدت المدارس لا لتعليم العلم ونشره وانتفاع الأمة به بل لتعد لها رجالا يقومون بوظائفها التي يكفي في القيام بها معارف محدودة بل حسب الموظف في تأدية وظيفته سهولة انقياده فاقتبست كل نظمها ومناهجها وأساليبها التعليمية من الخارج حتى أصبحت مدارس كل نظمها أجنبية في كل شيء ، ودعى لطفي السيد إلى أن تكون طريقة التعليم طريقة التمدين ذات طابع وطني تمتزج بنفس المتعلم وعاداته الأصلية في نفسه وحتى يبقى المتعلم بعد التعليم جزءا من أمته وفردا من قومه حافظا لجميع المشابهات التي تربطهم.
وأكد لطفي السيد أن دواء الأمة المريضة هو بالتربية والتعليم وإنه لا خلاف بين الناس في ضرورة التربية وإنها الوسيلة لكل ارتقاء غير أن الصعوبة هي في تحديد أنماط التربية والتعليم عندنا وطريقة تحضيرها أي جعلها تنتج في مصرنا جميع النتائج التي تنتجها في الأوطان التي استعرناها منها لأن نظرية التربية والتعليم وتحديد أنماطها لم تأخذ بعد مركزا ثابتا في حياتنا المصرية إنما التربية المدرسية عندنا أو التعليم بكافة أنواعه خليطين من التعليم الفرنساوي والتعليم الانجليزي تقوده الصدفة إلى أي نتيجة غير منتظرة ولذلك يجب علينا أن نحدد أولا الأغراض التي نبغي الحصول عليها من التربية.
وعندي أن التربية في مصر يجب ان ترمي إلى غرضين أحدهما: أن يسترد المصري فضائله الاجتماعية التي جنى عليها الاستبداد الطويل بشرط أن تبقى مع ذلك مصريا ، والثاني: أن تسلح ملكاته بالعلوم والمعارف ليكون قادرا على مزاحمة غيره في بلاده مزاحمة للقرين في المسائل العلمية والفنية والاقتصادية نقول ذلك ونترك لعلمائنا والمشتغلين بالتربية في بلادنا أن يقروا الطرائق التي تجعل التربية المدرسية تنتج هذين الغرضين.
وانتهى لطفي السيد من ذلك إلى أن التربية والتعليم طريق طويل جدا لأنه يستتبع الوقوف بالضبط على خير الأنماط المفيدة لنا ثم القدرة على تطبيقها على الوجه النافع ثم الانتظار بها حتى تتأقلم في مصرنا وتصير مصرية بالزمان ثم تنتج نتائجها البطيئة التدريجية في كفاءتنا المختلفة ومن ثم فطريق التربية والتعليم طريق بعيد ولكنه مع ذلك أقرب الطرق لأنه الطريق الوحيد.
الـتـعـــلـــيـــق عــلـى الــمـقــال الــثـانـي
سيكون أيضا على كل فقرة حسب رقمها 1 ، 2 ، 3 ، .... إلخ)
1ــ لمحة هامة جدا لابد من الإشارة إليها : وهي أن معظم من يحملون هموم الوطن وينشغلون بإصلاحه ويسهرون ويفارق النوم جفونهم ، دائما ما يخرجون من الريف المصري حيث أنهم يعيشون الحياة الريفية ويشاهدون إلى أي مدى معاناة الفلاح المصري و احتياج المصريين لكل شيء ، وهذا ما ينطبق على كثير من العلماء والأدباء والمفكرين والمصلحين المصريين على مر التاريخ من رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ، وطه حسين ، وأحمد لطفي السيد وغيرهم مع كامل احترامنا لهم جميعا ولغيرهم من المصلحين المصريين.
ــ وأضيف لمسألة العقاب السائدة في التعليم ، التي كانت أيام لطفي السيد ، التي تعتمد على الحبس والضرب بسبب الصبغة العسكرية للمدارس ، وتحولت في أيامنا إلى الضرب أحيانا والسب والشتم والتوبيخ والفصل أحيانا أخرى ، أقول إن من أفضل أساليب العقاب في التعليم من وجهة نظري هي الفصل المؤقت أو الحرمان من الذهاب إلى المدرسة لمدة أسبوع أو أكثر ، لكن هذا العقاب لن ينجح إلا بشروط ، وهي أن تكون المدرسة مؤسسة متكاملة يجد فيها المُتَعَـلّـم جميع سبل الراحة والترفيه والترويح والأنشطة العلمية والرياضية والفنية والأدبية من ملاعب ومكتبة وحجرة الموسيقى ، بحيث تصبح المدرسة المكان المحبب لقلوب المتعلمين مهما اختلفت توجهاتهم وهواياتهم وصفاتهم ورغباتهم ، وهنا يصبح الحرمان من المدرسة شيء مؤثر جدا ومكروه جدا للمتعلمين ، وسيخاف كل طالب أو تلميذ من هذا العقاب ، وسيحاول كل منهم أن يبذل قصارى جهده ليتمتع بما في المدرسة من متع دنيوية في مختلف الأنشطة لن يجدها في بيته ، لكن التعليم ومؤسساته في صورتهما الحالية تحولا لجحيم مقيم ، لا يطاق بالنسبة للمتعلمين جميعا ، وأسعد لحظات يعيشها المتعلم هذه الأيام حين يدق جرس الانصراف للبيت أو حين ينتهي العام الدراسي وينتهي آخر أيام الإمتحانات ، وهذا إن دل فإنما يدل على فشل العملية التعليمية برمتها.
2ــ أهم ما لفت نظري في هذه الفقرة هي المدة التي تولى فيها لطفي السيد مسئولية وزارة المعارف وهي 15 شهر فقط ورغم ذلك فـَكـّر بسرعة في وضع خطة لتحديث التعليم المصري ، وفي حقيقة الأمر ان هذه المدة غير كافية إطلاقا لتحديث التعليم لأن تحديث مؤسسات التعليم عملية معقدة ومتشابكة جدا وتحتاج مزيدا من الوقت ، لكن رغم ذلك لم يضيع وقتا وبدأ في العمل سريعا ، وهنا يظهر الفشل والعطب الفكري والسياسي لكل من تولوا مناصب سياسية بعد الثورة وصنعـوا حُجة واهية تعبر عن فشلهم وجهلهم وإفلاسهم الواضح وهي (اعطونا فرصة كي نعمل) ورغم مرور عام كامل على الثورة لم ينجح المجلس العسكري ولا أي وزارة معه في حل أي مشكلة مهما كانت صغيرة مثل مشاكل البنزين 80 أو أنابيب الغاز أو الحد الأدنى والأقصى للأجور أو تعديل قانون الضرائب أو تعديل قانون الدعم لكي يصل لمستحقيه بالعدل وعلى رأس هذه المشاكل ظاهرة البلطجة التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالفراغ الأمني ، وحين يضغط عليهم الشارع يقولون اعطونا فرصة كي نعمل.
ــ ولأن التعليم هو الآلية التي يمكن أن تنهض بأي مجتمع وترتقي به وبشعبه لذلك أصـرّ لطفي السيد على تحديثه وإصلاحه والنهوض به ، ولنفس السبب نجد أن أي حاكم مستبد سواء كان الاستبداد دينيا أو سياسيا يحاول بقدر الإمكان تجهيل الشعوب عبر مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام المختلفة ومنابر الدولة لكي يصنع شعبا مُغـَيـّبا وهذا المنهج السياسي يستخدمه المستبد العربي العسكري ، والمستبد العربي الديني مع الفارق ليتم السيطرة على المجتمع بسهولة.
ويظهر هذا جليا في دولة مثل مصر ، برغم أنها صاحبة أقدم وأعرق حضارة إنسانية في العالم ، وكذلك رغم أن الإسلام الموجود في القرآن سبق أوروبا وأمريكا بقرون في وضع أسس وقواعد المجتمع المدني المتحضر التي ذكرها القرآن العظيم الذي سبق الغرب ، إلا أن لطفي السيد يسير على خطى دعاة العلمانية الذين يُحَمِّلون الإسلام أوزار المسلمين حين يخلط بين الإسلام والحضارة والثقافة الإسلامية ، وهذه المعضلة لا حل لها إلا بالتخلص من تقديس الثقافة والتراث والتاريخ الإسلامي والتعامل معه بمنهج النقد والتحليل والأخذ والرد ، لأن هذا التراث هو سبب وعامل أساس في تشكيل الثقافة العامة للمسلم وعامل مؤثر في العملية التعليمية برمتها ، والحل ليس في استيراد الفكر من أوروبا وإنما في الرجوع للقرآن وجعله منهج حياة ومرجعية وحيدة للمسلمين ، لأن في القرآن وحده العلاج الأمثل لكل قضايا العصر لأنه فوق الزمان والمكان ، وهنا الخروج من معضلة النداء بفصل الدين عن الدولة التي لا يقبلها معظم المسلمين الذين ينظرون لاستيراد الفكر الغربي على أنه كفر وخروج عن الدين ، لكن لن يرفضوا جميعا فكرة الرجوع للقرآن واتخاذه مرجعية ومنهاجا في الحياة.
3ــ اتفق تماما مع هذه الفقرة التي تبين فكـره التربوي ، والتي يؤكد فيها لطفي السيد أن التربية والتعليم هما السبيل الوحيد للنهوض بالمجتمع واستقلاله ، وهذا يبين فكره التنويري الرائع الذي يعتبر أن العـلم والثقافة وتنمية العقل وصناعة الوعي عند المواطنين هي مقومات أساسية لاستقلال الوطن والنهوض به ، ويجب التعاون بالمال والفكر والمشورة وتبادل الآراء من أجل تحقيق هذا الغرض القومي العام ، وهنا لابد أن نذكر أكبر جرائم الحكم العسكري في مصر الذي يُنفق على بناء السجون والمعتقلات وتدريب الكلاب في انجلترا وأمريكا لتعذيب المصريين مبالغ طائلة تقدر بأضعاف مضاعفة لما ينفق على التعليم والبحث العلمي.
تعليقا على المبادئ الخمسة:ــ
الأول ــ كذلك ننوه أن الطفل المصري يعتبر من أذكى عشرة أطفال على مستوى العالم حتى سن السابعة ، وبفضل البيئة السيئة والفقر والقهر والجهل والاستبداد والتخلف يتحول إلى شبه إنسان.
الثاني ــ الجمود في التفكير ورفض النقد والآراء الجديدة والأفكار الجديدة لإصلاح الفساد الثقافي والفكري والتشبث بالقديم هو ضمن أسباب تخلفنا.
الثالث ــ إن الأحوال الاقتصادية والمعيشية والمستوى العلمي والثقافي لا يمنح الآباء إمكانيات وقدرات ووقتا كافيا للقيام بالدور المفروض عليهم نحو أبنائهم مما يؤدي للتفكك الأسري أو التسرب من التعليم لأن البيئة غير صالحة لإعداد جيل سليم ، ومن جهة أخرى يُـصر بعض الآباء أن يكون الأبناء نسخة مكررة منهم ، فيحاول الطبيب أن يكون ابنه طبيبا ، وكذلك المهندس والقاضي والضابط ووكيل النيابة ، ورغم الآثار السلبية لهذا على شخصية الأبناء إلا أنها تحولت في بعض المواقع لاستغلال النفوذ وتوريث الوظائف من الآباء للأبناء.
الرابع ــ لابد من تفعيل نظريات الفروق الفردية في التعليم وفي الحياة عموما هذا فيما يخص الفروق بين المتعلمين ، لكن مع الأسف حين حاول المجتمع أن يجعل قدوة ومثل أعلى للمتعلمين اختزلها في مظاهر شكلية مثل اللحية والجلباب والنقاب ، ولم يتم تناول القدوة والمثل الأعلى بصورة أوسع وأعمق تعتمد على العمل الحقيقي الواقعي الفعلي والضمير والتقوى في كل سلوك يقوم به الإنسان ، وأصيبت مؤسسات التعليم بوباء قاتل وهو اتخاذ أصحاب اللحية والجلباب قدوة ومثل أعلى مهما كانت صفاتهم.
الخامس ــ ورغم اتفاقي معه تماما في أن التربية لابد أن تتطور وتتغير باستمرار للتناسب مع تغيرات الحياة ، وهذا ما لم يتوفر أبدا في مصر منذ عقود ، لأن الإنسان فعلا قابل للتربية وهو كائن يتأثر بما حوله من مناخ فكري وعلمي وثقافي ، ويساهم في هذا مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام والبيئة التي يعيش فيها بداية من الأسرة والعائلة والشارع والقرية والمدينة والدولة بكل ما فيها من مؤسسات فكل هذه مؤثرات لابد من وضعها في الاعتبار وتقنين دورها ومراقبته لأنها عوامل أساسية في تنشئة وبناء الإنسان في المجتمع.
ــ ولذلك لابد أن يقوم بوضع قوانين التربية كما قال لطفي السيد أساتذة متخصصون في هذا ، ولابد لكل من يعمل في مهنة التدريس أن يكون مؤهلا لهذا العمل ، لكن بكل أسف أكثر من نصف العاملين في مهنة التدريس في مصر لا يصلحون لهذه المهنة إطلاقا ، وأخص بالذكر هنا التعليم الابتدائي ، وهذا ليس قدحا فيهم ، ولكنهم قد يصلحوا للعمل في أي مجال آخر غير التعليم.
4 ــ كما اتفق أيضا معه في مطالبته بحرية التعليم ، لكن أضيف إلى ما قاله لطفي السيد أن المدرس المصري على الأقل حاليا لا يفكر في التلميذ أصلا ، فكل ما يشغله هو المال متى يحصل على راتبه.؟ ، متى يحصل على المكافآت والعلاوات والدرجات.؟ ، وكَـمْ عدد الطلاب المحتاجين للدروس الخصوصية.؟ ، وكَـمْ من المال سيدفعون.؟ ، وهذا التحول في شخصية المعلم المصري سببه الرئيسي حسب وجهة نظري الفساد السياسي في الدولة الذي طال جميع مؤسسات الدولة وخصوصا مؤسسات التعليم ومعظم العاملين فيها بحيث تحول المعلم إلى موظف يهتم بالحضور والانصراف فقط ويهتم بدفتر التحضير ، وانصرف اهتمام معظم المدرسين عن تطوير وتثقيف أنفسهم أو المساهمة في وضع رؤية لتطوير التعليم وإبراز سلبياته وعيوبه باستمرار ، وذلك لأن مصر تحولت لدولة بيروقراطية من جهة ، فكل هم العاملين فيها هو تنفيذ التعليمات والنشرات الشهرية أو الأسبوعية بسبب مركزية الإدارة ، ومن جهة أخرى أصبحت مصر دولة بوليسية قمعية فاسدة لا صوت ولا مكان فيها لأي صاحب رأي أو فكر جديد أو دعاة التنوير و الإصلاح والنهوض بالمجتمع ، بينما كان يفتح النظام الحاكم أحضانه للفاسدين والجهلاء والعملاء في كل المجالات وعلى رأسهم دعاة التطرف والعنف والإرهاب الوهابي.
الفصيل الوحيد الذي استفاد من هذا الفساد هم طبقة من الحرامية الذين اشتركوا مع النظام الفاسد في سرقة مصر ، أرباب التيارات الدينية من أخوان وسلفية ، فقد نجحوا في النصف قرن الأخير في نشر أفكارهم بين معظم طلاب المدارس والجامعات ومعظم البسطاء من الناس عن طريق المساجد والزوايا التي انتشرت في كل شبر من أرض مصر ، وصنعـوا أجيالا من المغيبين والمغفلين والمشوهين فكريا وأشباه المتعلمين ، وكان النظام الفاسد البوليسي القمعي يفتح الباب للفريقين ويتركهم يفعلون ما يشاؤون فريقا يسرق الدولة ، والآخر يلعب بعقول الناس والشباب لأن هذا التخريب الاقتصادي والتجريف للعقل والوعي المصري يصب في مصلحة الحاكم العسكري المستبد ، وهذا واضح جدا في حالات الثراء الفاحش لثلة من الحرامية في السنوات الأخيرة ، يوازيها نجاح وانتشار التيارات الوهابية وسيطرتهم على الشارع مما أدى لفوزهم وحصدهم معظم المقاعد في برلمان ما بعد الثورة ، وهذا ليس تجنيا عليهم ، ويكفي أن الدولة تركت لهم مؤسسات التعليم والمساجد يفعلون بها وبشباب الأمة ما يشاؤون من ندوات ومؤتمرات وأُسر واتحادات وطبع وتوزيع منشورات وكتب وكتيبات ، وفي المقابل لم يُسمح لأي فصيل آخر أو أي اتجاه آخر أن ينعم بهذا طوال ثلاثة عقود مضت خصوصا في الجامعات المصرية.
5ــ أوافق تماما على رفض لطفي السيد أن يتم استيراد فكر تربوي أوروبي لإصلاح التعليم المصري ، وهذا منطقي وعقلاني جدا لأن البيئة المصرية والإنسان المصري لهما طبائع وسمات مختلفة تماما عن أي مجتمع آخر ولابد من الأخذ في الاعتبار الظروف المختلفة قبل تطبيق النظم التربوية المستوردة في بلاد أخرى ، ولقد لفت نظري هذا الموضوع حين درسته في كلية التربية في مادة (التربية المقارنة) التي كانت تقارن بين خبرات التربية والتعليم في اليابان وأمريكا وانجلترا وويلـز ، وهنا لابد أن نؤكد أن مناهج وطرق التدريس والتربية في مصر لابد أن تنبع من علماء مصريين مخلصين هدفهم الإصلاح والتنوير وتحديث التعليم المصري والنهوض به ، وما أكثرهم ، واستبعاد كل من يبحث عن مصالح شخصية وأهداف حزبية مذهبية ، أقول هذا الكلام الآن لأن هناك خطة لتسليم وزارتي التربية والتعليم والداخلية للإخوان ، ولو حدث هذا سوف تنتقل مصر بامتياز للعصور الوسطى من الناحية الثقافية والفكرية بسبب سيطرة الاخوان على التعليم ، وإلى محاكم التفتيش بسبب سيطرتها على وزارة الداخلية ، ولذلك لابد لجميع التيارات الفكرية والفصائل السياسية أن تشترك في وضع الدستور وفي وضع القواعد والقوانين واللوائح التي ستدار بها مؤسسات الدولة في السنوات القادمة ، هذا لو كنا فعلا نريد مستقبلا مشرقا لمصر ، لكن لو سيطر الإخوان على التعليم والشرطة فانتظروا حمامات الدم في الشوارع ومنصات الإعدام في جميع ميادين مصر ، ولذلك أكرر وأؤكد على خطورة استيراد فكر تربوي يريد السيطرة على مؤسسات التعليم ويصبغها بصبغة دينية لا علاقة لها بالبيئة المصرية ولا صلة بينها وبين الثقافة والحضارة المصرية العريقة والعتيقة ، وأقصد هنا استيراد الفكر السلفي الوهابي والتعامل معه على أنه المنقذ والمخلص الوحيد لمصر ومؤسساتها وشعبها.
وإلى اللقاء في المقال الثالث....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق